في مصر حالة من التخبط واللغط الشديد، من قمة السلطة إلي المواطن البسيط، مرورا بمعظم التيارات السياسية والقوي الوطنية، في الشارع والفضائيات وأحزاب المعارضة ومؤسسات الدولة.المختلفة.
فقد صرح الدكتور عصام شرف رئيس وزراء مصر قبل أيام، بأنه يري أن تأجيل الانتخابات ضرورة لإعطاء القوي السياسية الجديدة الفرصة الكافية لتنظيم نفسها، ثم عاد رئيس الحكومة ليصحح ما قاله، مؤكدا أن تصريحه quot; اجتزئ من سياقه quot; وأن الجدول الزمني للمرحلة الانتقالية المعد مسبقا باق كما هو.
وفي الوقت الذي هدد اليساريون والليبراليون (40 حركة وجماعة يسارية وليبرالية) بتنظيم مظاهرة quot; مليونية quot; في ميدان التحرير يوم 8 يوليو القادم، مالم يتخل (المجلس العسكري) عن quot; خريطة الطريق quot; المرسومة للتحول الديمقراطي في مصر، وبأن يكون (الدستور أولا) وتأجيل انتخابات مجلس الشعب كما هو مقرر.
أكد الدكتور عمرو حمزاوي ( ليبرالي) في المؤتمر الثاني للائتلاف من أجل الديمقراطية، بأن من يقول الدستور أولا يخيب رأي المواطن المصري في الاستفتاء علي التعديلات الدستورية في مارس الماضي !! حيث شارك أكثر من 40% من الناخبين المصريين، وكانت نتيجة التصويت بنعم 78%، فكيف ننقض اليوم علي الديمقراطية ونقول للناخب صوتك لا قيمة له، سنغبر الدستور أولا ؟
مخاوف اليساريين والليبراليين (والأقباط) من وصول الإسلاميين إلي السلطة مشروعة تماما، لأن عدم تغيير الدستور أولا، يمنح الإسلاميين فرصة ذهبية للفوز في انتخابات البرلمان في سبتمبر القادم، التي ستنتهي إلي مجلس شعب يشرف علي وضع دستور جديد، خاصة مع اصرار المجلس العسكري ndash; الذي يدير شؤون البلاد ndash; علي عدم التأخير في نقل السلطة لحكومة مدنية قبل نهاية العام الحالي.
في تصوري ان المعضلة في مصر أعقد بكثير مما نتصور، وهي أكبر من محاولة هيمنة فصيل سياسي علي تيار سياسي آخر، أو جماعة وطنية علي حزب أوتيار سياسي أو (ديني)، كما انها لا تتعلق ب(الدستور أولا) أم (الانتخابات أولا) ndash; حسبما يبدو علي سطح الأحداث ndash; وإنما هي تتعلق أساسا (بما وراء الدستور) ومستقبل مصر وهويتها بعد ثورة 25 يناير 2011، وعلي امتداد العقود القادمة.
هنا بالتحديد سنكتشف أن صياغة (دستور جديد) أكبر من أن تترك للقانونيين وحدهم، أو المجلس العسكري، أو تيار سياسي دون آخر، أو جماعة وطنية بعينها، أو حتي ائتلاف مجموعة من القوي والأحزاب السياسية دون غيرها، ناهيك عن أن محاولة التخلص من هذه المسؤولية التاريخية أمام الأجيال القادمة، بإلقاء الأمر كله علي لعبة الانتخابات القادمة، والتنصل من النتائج، لن يعفي أحدا من هذه المسؤولية الجسيمة.
قوة أي دولة في العالم، حتي لو كانت في وزن الولايات المتحدة الأمريكية، ليست في مواردها واقتصادها وأساطيلها العسكرية أو حتي جامعاتها وابتكاراتها ووضع البحث العلمي فيها، فهذه كلها هي (القوة) وليست (سبب القوة) أو مصدرها.
(دستور) الدولة - وقوانينها - هو الذي يمدها بالقوة الازمة والدائمة التي تمكنها من كل ذلك، عن طريق (المواطنة الديمقراطية) الحقيقية، والعدل والمساواة في الحقوق والواجبات لكل قوي المجتمع وطاقاته، وأن يكون المعيار هو (الكفاءة) الموضوعية وليست (المكافأة) لذوي القربي والمحاسيب، وأن يختفي تماما التمييز السلبي بين المواطنين علي أساس الدين أو العرق أو الجنس أو الفكر.
ومن هنا فإن التوافق علي الدستور أولا، من قبل كل القوي الوطنية والتيارات السياسية المختلفة، هو المقدمة الضرورية والعاجلة التي يجب أن تسبق أي شئ، لا أن ننفخ الدخان في سجال عقيم حول (البديهيات) الواضحة بذاته، وكأننا نخترع العجلة ونكتشف الكهرباء من جديد.
أن التوافق حول الدستور أولا يحسم الجدل بعد أكثر من مائتي سنة علي انشاء الدولة المدنية الحديثة في مصر، ويحدد طبيعتها ومقوماتها واتجاهها في المستقبل، أو بالأحري يحسم قضية العلاقة بين الدولة والدين، أو بين السياسة والدين ..... فهل لازلنا نتهرب من الحسم ؟ وهل نكرر أخطاء القرنين السابقين، ونصبح خارج التاريخ والجغرافيا في عصر يهمل ولا يمهل ؟

[email protected]