أتوقع تصاعدا متناميا ومتناغما في نبرة التنديد (والتهديد) الغربية لمصر، خاصة بعد مذبحة كنيسة القديسين بالإسكندرية في مطلع هذا العام 2011، لأسباب متعددة وكثيرة، منها ردود أفعال النظام المصري نفسه التي تحمل كثيرا من العناد (والعنجهية) والتسويف، وقليلا من مفردات هذا العصر الذي يهمل ولا يمهل.
لم تستوقفني تصريحات البابا بنديكت السادس عشر، والتي ذكر فيها أقباط مصر بالأسم ودعا فيها إلى quot;وضع حد لمطاردة المسيحيين الذين يعيشون في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط quot;.
ولا تشديد المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل علي ضرورة حماية حرية الأديان، حيث دعت في رسالتها الأسبوعية التليفزيونية على الإنترنت إن الحرية الدينية أحد حقوق الإنسان الكبري..quot;وإننا جميعا ملزمون بالدفاع عن الحرية الدينية not; مثل حرية الرأي وحرية الصحافة وحريات أساسية أخرىquot;.
وإنما تسمرت عيناي أمام مقولة وردت علي لسان الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي وهي: quot; التطهير الديني الشرير quot; الذي يستهدف الأقليات الدينية في الشرق الأوسط.
عبارة ساركوزي الصادمة أجبرت النظام المصري علي الرد رسميا وبحدة، فهو ليس بابا الفاتيكان حتي يدفع اليه برجل دين مثله في قامة ومقام شيخ الأزهر ليرد عليه وينتهي الأمر، وهو ليس معاديا لمصر أو سياساتها الخارجية، العكس تماما فهو صديق للرئيس المصري حسني مبارك وهو الذي رشح مصر لقيادة جنوب المتوسط، فما هي الشحنة الكهربائية التي حملتها عبارة ساركوزي لتصعق كل ذلك، ويهاجم وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط الاتحاد الأوروبي كله أو ما أسماه quot; بالنادي المسيحي quot;، وليس ساركوزي وحده.
التطهير الديني الشرير مثل quot; التطهير العرقي الشرير quot;، من أهم وأخطر العبارات التي صيغت عقب تفكك الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية بعد عام 1989، وهي تصنف تحت ما يعرف ب(حرب) ما بعد الحرب الباردة، ويعلم مغزاها جيدا معظم وزراء الخارجية في العالم، خصوصا في مصر، فقد صيغت في عهد الدكتور بطرس غالي الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، الذي أعلن وهو علي رأس المنظمة الأممية: quot; أن الدول المستقلة أختفت من العالم تقريبا quot;، ولا حديث بعد اليوم عن داخل وخارج، أو تدخل خارجي في الشؤون الداخلية للدول.
كوفي عنان الأمين العام السابق أيضا للمنظمة توسع في تفسير هذه العبارة وطبقها بالفعل، ليدشن عهدا جديدا في السياسة الدولية، قال: quot; ان السيادة الوطنية لها حدود وان التدخل قد يقع للتصدي لانتهاكات صارخة لحقوق الإنسان، كما ان فكرة السيادة المطلقة لم تعد أمرا مقبولا في زمن العولمة، وان ما كان يعتبر شأنا داخليا محضا في الماضي أصبح شأنا دوليا وانسانيا.
لكن أهم ما قاله عنان هو: quot; ان مفهوم سيادة الدولة يمر بعملية تحول كبري، وان الدول ينظر اليها اليوم باعتبارها (أدوات) في خدمة شعوبها وليس (العكس)، ومن ثم فإن هناك حاجة لإعادة تعريف المصلحة الوطنية بشكل يتسق ومتطلبات القرن الحادي والعشرين quot;.
ففي عام 1999 صدر تقرير دولي عن الأمم المتحدة، دشن مرحلة جديدة في النظام العالمي، جاء فيه: quot; ان التدخل العسكري يمكن أن يصبح ضروريا لمنع عمليات إبادة جماعية أو (تطهير عرقي - ديني) واسع النطاق أو طرد قسري أو ترويع واسع المدي أو اغتصاب مدنيين. quot;
جاء هذا التقرير بعد خمس سنوات من المجازر، في روندا بوسط أفريقيا عام 1994، ولم يحرك المجتمع الدولي وقتئذ ساكنا، باستثناء دراسة مهمة بعنوان quot; مسئولية الحماية quot; صدرت برعاية الحكومة الكندية، وكانت محور النقاش الذي تفجر مع افتتاح كوفي عنان لدورة الجمعية العامة للمنظمة الدولية عام 1999 بشأن ما يتعين عمله، عندما لا تستطيع حكومة ما حماية مواطنيها أو ترفض حمايتهم.
وعلي الرغم من أن أول مقولة موثقة لعالمية حقوق الإنسان، أو قل حق التدخل (لأسباب) إنسانية وجدت في كتابات جروتيوس عام 1625، الذي افترض حق التدخل لمنع المعاملة القاسية من قبل دولة ما لرعاياها، فإن هذا المبدا قد همش منذ القرن السابع عشر ليعود بقوة كالروح المستحضرة في نهاية التسعينيات من القرن العشرين، ويصبح أهم آليات تطويع القانون الدولي لتتوافق مع واقع توزيع القدرات في النظام الدولي الجديد.
الجديد في الأمر هو أن مبدأ حق التدخل لأسباب انسانية قد أسقط تماما الفقرة الأولي من المادة 53 من ميثاق الأمم المتحدة التي تنص علي: quot; عدم القيام بأي فعل اكراهي سواء تحت ترتيبات اقليمية أو منظمات اقليمية دون موافقة مجلس الأمن quot;، فقد تدخل حلف الناتو في كوسوفو عام 1999، وتدخلت بريطانيا في سيراليون عام 2000 دون موافقة مجلس الأمن !، ليبدأ عهدا جديدا يؤكد علي أن (المشروعية) تعلو علي (الشرعية) في التدخل الخارجي في القرن الحادي والعشرين.

عصام عبدالله
[email protected]