تأسست رؤية أوغسطين كورنو المابعد حداثية علي ان quot; المدنية quot; كان لها منذ أقدم العصور مسرحان، أحدهما في الشرق والآخر في الغرب، ففي العصر الذي ظهر فيه (لاو ndash; تسي) و (كونفشيوس) في الصين، ظهر (طاليس) و(فيثاغورس) في اليونان. وبعد ذلك بخمسة قرون وجدت امبراطوريتان فسيحتان تأسس عليها حكم مطلق، في شرق وغرب العالم القديم، هما الامبراطورية الصينية في الشرق والرومانية في الغرب، هذا التزامن لم يكن وليد الصدفة، وإن عضدته الصدف المتزامنة، التي دفعت كورنو إلي صياغة نبوءاته.
وحسب المستشرق الصيني شريف شي سي تونغ فإن الإسهامات الصينيّة في الحضارة البشرية هي: صناعة الورق، والطباعة، والبارود، والبوصلة. وهذه الاختراعات نبّأت على حدّ تعبير quot; كارل ماركس quot;: بقدوم المجتمع الرأسماليّ، فالبارود حطّم طبقة الفرسان، والبوصلة فتحت الأسواق العالميّة، وأقامت المستعمرات، وفنّ الطباعة أصبح أداة تعليم ووسيلة النهضة العلميّة، وقوة دافعة كبرى، ومقدّمة ضخمة لتطوير الروح الإبداعيّة quot;. ومن المعروف أنّ الحضارة الصينيّة تحتلّ مكانة هامة في تاريخ الحضارات العالميّة، فهي واحدة من أقدم حضارات العالم، وأحد منابع الحضارات الإنسانيّة في العالم كلّه، وكذلك هي الحضارة الوحيدة من بين حضارات البشرية التي قامت واستمرت وتطوّرت إلى يومنا هذا.
إنّ الحضارة الصينيّة، كما يقول تونغ، لم تنحصر في الأراضي الصينيّة فحسب بل انتشرت في دول شرق القارة الأسيويّة كاليابان وكوريا وفيتنام وغيرها من الدول لتسهم في تشكيل حضارة شرق آسيا. وظلّت الصين تمثّل مركز دائرة هذه الحضارة منذ القرن الرابع قبل الميلاد إلى أواسط القرن التاسع عشر الميلادي، وقد ورد في كتاب quot; الجدول الزمنيّ للاختراعات العلميّة الكبرى في العالم quot;: أنّ مجموع الاختراعات والإنجازات العلميّة الكبرى الهامّة في الفترة من القرن السادس قبل الميلاد إلى القرن الحادي عشر الميلادي ( 231) اختراعاً، وكان نصيب الصين منها ( 135) اختراعاً أيّ بنسبة قدرها( 58,4 % ). ومنذ بداية القرن الحادي عشر الميلادي حتّى السادس عشر الميلادي نجد أنّ مجموع الاختراعات والإنجازات العلميّة الكبرى الهامّة في العالم ( 67) اختراعاً، ونجد أنّ نصيب الصين منها( 38) اختراعاً، أي بنسبة قدرها ( 54%)، ناهيك عن أن الاختراعات الأربع الكبرى في الصين (صناعة الورق، والطباعة، والبارود، والبوصلة) قد لعبت درواً ثورياً طليعيّاً ومهّدت لبداية عهد حضاريّ حديث. (5)
ويري كورنو ان من أهم التباينات والتناقضات بين الغرب والشرق ان مدنية الغرب يمكن تصورها كنسق متطور مفتوح، تقوم ميكانيزماته بطبع أية عناصر خارجية عنه بطابعه. أما النسق الشرقي فإنه يقاوم أي تأثير ويعلق ثقافته علي الموجود أوالوضع القائم.
هذا من جهة، من جهة أخري فإن كل النظم المتطورة التي خلفتها أثينا وروما لم تترك سوي القليل للانسان كإنسان، بينما كانت النظم الاجتماعية للصين تبني وتشق قيمها من تيسير شئون الحياة للكائن البشري.هكذا خالف كورنو معظم سابقيه ولاحقيه، من خلال تحليله لتاريخ المدنيات، ليس في نبوءاته بالنسبة للصين فحسب وإنما بالنسبة لروسيا أيضا.
فلم يتأثر مثلا بالجو المشحون بالصراع في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولم يندفع وراء هوجة الأفكار الاشتراكية المتصاعدة والمحتدمة وقتئذ، ورغم ان ثورة أكتوبر عام 1917 في روسيا قد فوتت الفرصة علي نبؤته، فإن أفكاره لم تمت ولكنها عاشت في الظل طيلة هذه الفترة لتنهض كالأرواح المستحضرة اليوم، وبقوة.
فقد تنبأ كورنو بأفول الأمبراطورية الروسية سريعا، وحجته ndash; التي لم يتنبه إليها أحد ndash; أن هذه الامبراطورية تحوي مزيجا مختلطا من السمات الأسيوية والأوروبية، ومن ثم فهي تتجه نحو النموذج الغربي وليس الشرقي، الشئ نفسه بالنسبة للحضارة المصرية القديمة، والتي رأي أنها استوعبت تماما في الحضارة الغربية.
والنموذج الغربي حسب كورنو يطبع كل شئ بطابعه، ويستوعبه بالكامل، حتي وان حمل بعض السمات الأسيوية ( الشرقية ). وهو ما يختلف جذريا في حال الصين، وتبرز خصوصية الصين ككتلة واحدة منسجمة تحمل سمات شرقية أصيلة، إذ تبني وتشتق قيمها وتقاليدها ونظمها من باطنها، فهي النموذج القائم بذاته في الشرق منذ الماضي السحيق. (6)
لقد استند كورنو إلي: 1rlm; ـ حتمية انهيار الامبراطورية الروسية القيصرية ثم السوفيتية بعد ذلك لأنها هجين أوروبي ـ آسيوي والاوروبي مذوب عبر التاريخrlm;,rlm; وعليه فإن روسيا ستتحول آجلا أم عاجلا الي النمط الغربيrlm;,rlm; وعندها ستفقد ميزتها وتنهار وهو ما حدث فعلا بإنهيار الاتحاد السوفيتي ديسمبرrlm;1991.rlm;
rlm;2rlm; ـ إن الحضارة الصينية هي حضارة منغلقة وهي بذلك حافظت علي استمراريتها منذrlm; آلاف السنين، وعدم الانقطاع الحضاري هذا يجعلها مرشحة للعب دور حضاري جديدrlm;، فإحدي النظريات الاستقرائية تقول بأن الحضارة المنقطعة بائدة لا سبيل لإحيائهاrlm;، مثل الحضارة المصرية القديمة. (7)
3- فلسفة كانط في التاريخ، وفي تفسير الثورات والأحداث السياسية. فقد كان quot;كانطquot; سابقاً لأوانه بزمن طويل، ولم يكن من السهل قبل أكثر من مائتى سنة، أن يحلم أحد بالعولمة أو بتشكيل نظام عالمى جديد يتجاوز كل القوميات، أو بقانون دولى كوسموبوليتى لحل الخلافات التى قد تنشب بين الأمم، وذلك فى كتابيه: فلسفة الحق، ومشروع للسلام الدائم بين الأمم