quot;الثقافة وليست السياسة أو الاقتصاد، هى التى سوف تحكم العالم. والعالم ليس واحداً. الحضارات توحد العالم وتقسمه.. الدم والإيمان، هذا ما يؤمن به الناس ويقاتلون ويموتون من أجلهquot;... بهذه العبارة لخص صامويل هنتنجتون في مقاله quot;صدام الحضاراتquot; صيف عام 1993 ما نعيشه اليوم وربما غدا.

الحضارة، عنده، هوية ثقافية تحددها عناصر موضوعية (اللغة والدين والتاريخ والعادات.. الخ)، وعامل ذاتى، ألا وهو الهوية التى يقررها الأفراد لأنفسهم. وقد تشمل حضارة ما عدة دول ndash; أمم، أو دولة واحدة (مثل اليابان). وقد تشمل العديد من الحضارات الفرعية (مثال ذلك الحضارة الغربية بشقيها الأوربى والأمريكى الشمالى، والإسلام والعرب، والأتراك والماليزيين).

هنتنجتون حدد ثمانية أنواع من الحضارات: الحضارة الغربية، والكونفوشية، واليابانية، والإسلامية، والهندوكية، والسلافية ndash; الأرثوذكسية، والأمريكية ndash; اللاتينية، والافريقية. والفروق بين الحضارات ليست حقيقية فقط بل وأساسية أيضاً، وهى نتاج تاريخى يمتد لقرون ولن تزول عاجلاً.

أخطر ما في أطروحة هنتنجتون هو: إذا كان السؤال المطروح فى النزاعات الايديولوجية في القرن العشرين : quot;مع أى جانب تقف؟quot;، ومن ثم كان بوسع الناس اختيار معسكرهم وتعديله. فإنه فى النزاعات بين الحضارات في القرن الحادي والعشرين، يكون السؤال quot; من أنت؟ quot;، وعندئذ لا يكون التغيير ممكناً!

مفتاح السر في ذيوع وانتشار أطروحة هنتنجتون، رغم كل ما قيل عنها، هو أن جميع أطراف الصدام أو الصراع، في منطقة الشرق الأوسط تحديا وضفتي المحيط الأطلسي (أوروبا والولايات المتحدة) أيضا، كان راغباً فى تصديق هذه النبؤة التى حققت نفسها بنفسها!...
لكن: لماذا هذا الاجماع الذى حول هذه الأطروحة ndash; النبؤة إلى قناعة راسخة لدى جميع الأطراف؟

الإجابة لم تأت في دراسة هنتنجتون وإنما جاءت علي لسان quot; جريجوري س. بوميرانتز quot; أستاذ الحضارات المقارنة في معهد المعلومات للعلوم الاجتماعية في موسكو، الذي كتب دراسة مستقبلية مهمة في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، بعنوان (نظرية الحضارات العالمية الفرعية، أصالة الثقافات الشرقية).
يقول: quot; أن عالم البحر المتوسط - والولايات المتحدة - يعارض الشرق الأقصي من حيث أنه حضارة تقوم علي حقائق الوحي الإلهي، في حين أن الحقيقة في الشرق الأقصي غير مستمدة من الوحي، ولا يمكن التعبير عنها أساسا، فالقرآن الكريم عند المسلمين، والمسيحية في نظر المسيحيين، من الحقائق المطلقة الموحي بها. أما البوذية فهي ndash; علي العكس ndash; تتمسك بأهداب quot; الصمت النبيل quot; فيما يتعلق بالأسرار العظمي لما يسمونه quot; الكائن quot;. وتأييدا لذلك يقول quot; لاو تزو quot; مخاطبا أياه: quot; أيها الغامض! أيها السديمي! quot;.

لكن علي عكس الصين، يبدو quot; أن الهند الهندوكية تتبوأ مكانا وسطا في توازنها بين المعبر عنه والمسكوت عنه، والأشكال المقدسة الشخصية وغير الشخصية، وهي في في هذا تقارب البحر المتوسط من بعض الوجوه، وتقارب الشرق الأقصي من وجوه أخري quot; .

وما يهمنا في هذه النقطة أنه قد حال الطابع غير الدقيق لرموز quot; المطلق quot; في الصين والهند دون قيام الصراع بين الدين والفلسفة، ذلك الصراع الذي استشري في عالم البحر الأبيض المتوسط، بسبب اختلاف الأصل العرقي للمذاهب. فهو سامي بالنسبة للعقائد الدينية، وأغريقي بالنسبة للفلسفة، وروماني بالنسبة للقانون. ولا يوجد في الهند أو في الصين أي خلاف في اصطلاحات الفلسفة واللاهوت. ولا يتصور العقل أن يؤلف أحد كتابا في quot; تهافت الفلاسفة quot; كما فعل الغزالي، ولا quot; تهافت التهافت quot; كما فعل إبن رشد، ولم تنزل الفلسفة إلي درجة quot; خادمة للاهوت quot; كما قال توما الأكويني، ولا تمردت الفلسفة علي دورها. ولم يكابد أهل العلم محنة العقل في هذه الوحدة الثقافية غير المتطورة، ناهيك عن أن فرصة انفصال العلم عن الامتزاج بالدين وتحوله إلي قوة اجتماعية مستقلة ظلت ضئيلة للغاية quot;.

ما الذي يكبل أقدامنا quot; نحن quot; ويقيد حركتنا من الانطلاق في اتجاه المستقبل مثلما أنطلقوا quot; هم quot;؟
كيف نجح الغرب (ممثلا في أوروبا ثم أمريكا) في حل هذه المعضلة منذ عصر النهضة الأوروبية، بينما فشلنا نحن في تجاوزها رغم تشابهنا وانتمائنا إلي عالم البحر المتوسط أيضا؟
لماذا أصبحت الصين والهند ودول أمريكا اللاتينية في مصاف الدول المتقدمة والأقطاب الكبري، بينما مازلنا نحن نجتر نفس الأفكار البالية والصياغات المستهلكة التي تنتمي إلي عالم العصور الوسطي؟.. الأخطر من هذا وذاك، أننا أصبحنا المصدر الأول للقلاقل والاضطرابات في العالم كله؟

[email protected]