العلاقة بين quot; كانط quot; وquot; كورنو quot; وما بعد الحداثة السياسية لم تلق الاهتمام الكافي بعد، فقد طرح كانطndash; ولأول مرة ndash; اشكالية العلاقة بين الوحدة والتنوع داخل الحضارة المستقبلية من الناحية الفلسفية، وتحديداً فى ضوء مناهج التفسير العلمى. فقد بحث فى فصل هام من كتابه quot;نقد العقل الخالصquot; ناحية خلاف أساسية فى مناهج التفسير، وقال أن أحد المنهجين يتبع مبدأ quot;الوحدةquot;، بينما يتبع المنهج الآخر مبدأ quot;التنوع.
ويحاول المبدأ الأول رد الظواهر المتباينة إلى حد مشترك. بينما يرفض المبدأ الآخر قبول هذه الوحدة المزعومة أو التشابه المزعوم. فهو دائم البحث عن الاختلافات بدلاً من تأكيد الملامح المشتركة. ولا تعارض فعلى بين المبدأين فى نظر كانط، لأنهما لا يعبران عن أى اختلاف أو نطولوجى أساسى، أى اختلاف فى طبيعة الأشياء فى ذاتها وماهيتها.
انهما يمثلان بالأحرى اهتماماً مزدوجاً للعقل الإنسانى. فلا يمكن للمعرفة الإنسانية الاهتداء إلى غايتها إلا إذا اتبعت الطريقين معاً، وعنيت بالاهتمامين معاً. فعليها أن تعمل وفقاً لمبدأين quot;منظمينquot; مختلفين: مبدأ المشابهة ومبدأ الاختلاف، مبدأ الوحدة ومبدأ التنوع أو تعدد الأجناس.
ولا غناء عن القاعدتين على السواء، كى يقوم العقل الإنسانى بمهمته. فما يحقق الموازنة للمبدأ المنطقى القائل بانطواء الأشياء تحت جنس واحد ndash; أى المبدأ الذى يؤكد الهوية ndash; هو المبدأ الآخر بوجود أنواع مختلفة، والذى يطالب بوجود جوانب متعددة فى الأشياء وتنوع فيها ويوعز إلى الفهم بضرورة توجيه قدر متساو من الاهتمام إلى المبدأين.
ويعبر كانط عن هذا المعنى بقوله: quot;أن هذا الاختلاف يفصح عن نفسه فى اختلاف حالة الفكر عند الباحثين فى الطبيعة. فبعضهم ينفر من القول بتعدد الاجناس، ويركز دائماً على وحدة الجنس. بينما يسعى البعض الآخر دائماً لتقسيم الطبيعة إلى أنواع مختلفة بحيث يكاد يشعر المرء باليأس من إمكان إرجاع هذه الظواهر إلى أية مبادئ عامةquot; (8)
ويصح ما ذكره كانط هنا عن دراسة الظواهر الطبيعية، على دراسة بعض ظواهر الحضارة أيضاً، إذ أن وجود شئ من التنوع بين المجتمعات البشرية أمر جوهرى لتوفير حافز ومادة لأوديسية(9) الروح البشرية، كما قال وايتهد فى كتابه quot;العلم والعالم الحديثquot;: إن الأمم الأخرى ذات العادات المغايرة ليست أعداء بل هبات من الله، فالناس يتطلبون فى جيرانهم قرابة تكفى للفهم، واختلافاً يكفى لإثارة الانتباه، وجلالاً يكفى ليبعث على الإعجاب والتسامح شرط لابد منه لنمو الحضارة وتطورها، وبدون التسامح يهدر كثير من الخبرة الإنسانية القيمة. ويستطرد quot;وايتهدquot;: quot;أن روح التسامح سوف تنتشر حين يطوف الناس حول العالم ويقصرون المسافة المكانية، ويقومون برحلات فى الزمان فيتعرفون على حياة الماضى. ذلك يؤدى إلى الاعتراف بأن الأمم الأخرى ذات العادات المغايرة، ليست أمماً معادية بل هى عطايا اللهquot; (10)
لكن تأثير فلسفة quot; كانط quot; بالنسبة لكورنو كان أعمق من ذلك، فقد كان كانط من المعجبين المتحمسين للثورة الفرنسية، ومن دلائل رجاحة عقله ndash; كما يقول quot; كاسيرر quot; ndash; انه لم يعدل من حكمه عندما بدت غاية الثورة الفرنسية وكأنها أخفقت. وحين أرتكبت الثورة أبشع الجرائم بإسم الحرية والإخاء والمساواة، فظل إيمانه بالقيمة الأخلاقية للأفكار التي عبر عنها إعلان quot; حقوق الإنسان والمواطن quot; راسخا لا يتزعزع. وقال quot; كانط quot;: quot; مثل هذا الحادث لا يقتصر أثره علي الافعال الحسنة أو السيئة التي قام بها الناس... ان الثورة التي قام بها شعب بارع، وقدر لنا أن نعيش لنراها معرضة للنجاح أو الإخفاق. وهي قد تكون حافلة بمصائب وأحداث فظيعة، تدفع أي انسان خير ( حتي إذا رضي عن مؤازرتها ) إلي التصميم علي عدم إعادة هذه التجربة بمثل هذا الثمن الباهظ. ورغم كل هذا فقد صادفت مثل هذه الثورة لدي جميع المشاهدين شعورا بالتعاطف اقترب من درجة الحماسة... لا يمكن أن تنسي مثل هذه الظاهرة في تاريخ البشرية. فلقد أثبتت احتواء الطبيعة البشرية علي ميل إلي ما هو أفضل، واستعدادا لبلوغه. وهذا أمر ما كان بمقدور أي سياسي أن يتنبأ به، إذا أعتمد علي تذكر الأحداث السالفة quot; ( 11 )
هذا هو الدرس quot; الكانطي quot; الأهم الذي استوعبه quot; كورنو quot;، فقد تزامنت رؤيته المستقبلية للصين اليوم، مع بداية فترة الأضمحلال الصينيrlm; (1860rlm; ـrlm;1894)rlm;، والتي شهدت الصين خلالها مزيدا من المعاهدات غير المتكافئة التي أعقبت حرب الأفيون عام rlm;1842، تلك المعاهدات التي أجبرت الصين علي فتح موانيها الشرقية في كانتون وشنغهاي وغيرها للتجارة الخارجية والتي أطلق عليها موانيء المعاهدات quot;. (12)
ومع هذا فقد فاجئ quot; كورنو quot; الجميع عام 1861 بكتابه العلامة: quot; مقدمة في الأفكار الأساسية في العلوم والتاريخ quot;، الذي قدم تقسيما مغايرا للعالم تسوده quot; الصين quot; في الشرق، والولايات المتحدة في الغرب، وهذا التقسيم لم يكن تقسيما استراتيجيا أو اقتصاديا للقوي، بل أكثر من هذا، انه يستند إلي تاريخ المدنيات وفلسفة التاريخ والحضارة.

الهوامش:

1- Copleston: A History of Philosophy , Vol 9, p. 132.
2- د.عصام عبد الله: الأسس الفلسفية للعولمة، الكتاب الأول من سلاسل العربية، المملكة العربية السعودية، 2009.
3- نال محمود أمين العالم درجة الماجستير في الفلسفة عام 1953 ببحث عنوانه (فلسفة المصادفة)، ثم نشره عام 1970 بالعنوان نفسه.
4- Louis Arenilla: The Twilight of History , Diogenes , Vol 20 , No.79 , 1972 , pp. 26 ndash; 58.
5- حوار مع المستشرق شريف شي سي تونغ الأستاذ في جامعة الدراسات الأجنبيّة ببكين
حول التعليم والفكر والثقافة في الصين اليوم، مجلة أفق الثقافية، نوفمبر - 2002.

6- Louis Arenilla:p. 54.
7- أحمد دياب: القطــــــــب الصــــينيrlm;..rlm; قــــــــراءة فـــي النبــــــــوءة، جريدة الأهرام 4 مايو 2001، ص: 35.
8- أرنست كاسيرر: الدولة والأسطورة، ترجمة: د. أحمد حمدى محمود، مراجعة أحمد خاكى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1975، ص 238.
9- ملحمة هوميروس، والأوديسية تصور، كما هو معروف رجلة البطل أوديسيوس عائداً إلى وطنه بعد حرب طروادة، وما صادفه من مخاطر، وما عبره من عوالم غريبة. ولهذا يستعار أسمها لكل رحلة من هذا النوع.
10- جونسون (أ): فلسفة وايتهد فى الحضارة، ترجمة الدكتور عبد الرحمن ياغى، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت 1965، ص 38.
11- كاسيرر: الدولة والأسطورة، ص: 238 و 239.
12- أحمد دياب: القطــــــــب الصــــينيrlm;..rlm; قــــــــراءة فـــي النبــــــــوءة، مرجع مذكور.