ما شغلني في قلب مأساة كنيسة القديسين بالإسكندرية في مطلع الأول من يناير 2011 وتداعياتها المؤلمة، هو رصد وتحليل الكيفية التي سيتم بها (تخفيض) هول ما حدث (رسميا واعلاميا)؟ ما هي الآليات التي ستسخدم لأبعاد المسئولية عن أطراف بعينها، والصاقها بجهات محددة سلفا؟ وهل سيكرر الكتبة (وليس الكتاب) نفس الأسطوانة المشروخة عن quot; المؤامرة الخارجية quot; سواء كانت الموساد أو القاعدة أو غيرهما، التي لم يعد هناك من هو علي استعداد لمجرد سماعها وهي تنشذ؟
حديث المؤامرة أصبح يدعو الي الرثاء والشفقة، ولم يفلح هذه المرة لا كمحاولة للهروب إلي الأمام أو كوسيلة لإعفاء النفس من المسئولية، وإنما ndash; وعلي غير المتوقع ndash; فضح (تآمر) القائلين به أنفسهم، وزج بهم في مواجهة مع تلك الجهات الخارجية التي لن ترحم، وان غدا لناظره قريب !
لم يثبت حتي كتابة هذه السطور ان تنظيم القاعدة هو الذي يقف وراء هذه الجريمة الإرهابية البشعة، خاصة وأنها لا تخشي اعلان مسؤوليتها بل وتصدر بيانات رسمية تحمل غالبا توقيع إحدي مؤسساتها الإعلامية، وهذا ليس تبرئة للقاعدة من دماء الأقباط فهم علي قائمة المستهدفين من الأعداء والكفار! بقدر ما هو احترام لعقل القارئ وكرامته، ناهيك عن أن القاعدة ليست تنظيما له مركز واحد، فالقاعدة في أفغانستان لها قياداتها وأطرها، كما أن القاعدة في العراق تختلف عنها في اليمن أوبلاد المغرب، صحيح أن الفلسفة والمنهج واحد لكن تنفيذ الأهداف علي الأرض ليس واحدا يخضع لظروف وخصوصية كل مكان.
صديقي الكاتب الكبير علاء عريبي كتب في جريدة الوفد المصرية مقالا مهما كاشفا، يقول: quot; حكت لي زميلة شابة في صحيفة الأسبوع قصة قد توضح الوضع الإنساني في الإسكندرية، قالت: عندما وصلنا صبيحة رأس السنة إلى ساحة كنيسة القديسين، تجولنا في الحي والتقينا مع العديد من السكان المسلمين، وحكوا لها أن احدهم سرب في صلاة الجمعة بالمساجد المجاورة، أن كاميليا شحاتة تم نقلها إلى القديسين، واتفقوا، حسب الرواية، على تنظيم مظاهرة أمام الكنيسة تطالب بفك أسرها، وقرروا تأجيل المظاهرة إلى ما بعد أعياد الميلاد، فقد أحبوا أن يتركوا إخوانهم وجيرانهم المسيحيين أن يعيدوا وألا يفسدوا عليهم العيد، وقيل إنهم فوجئوا في ليلة الاحتفالات برأس السنة بالمذبحةquot;.
هذه الفقرة الخطيرة من المقال تعيد ترتيب رواية الأحداث من شائعة إسلام زوجة الكاهن كاميليا شحاته إلي تصريحات الدكتور سليم العوا والمستشار طارق البشري مرورا بالمظاهرات الصاخبة بمساجد العباسية والإسكندرية والمحافظات الأخري والتهديد الذي وجه لأقباط مصر عقب مذبحة كنيسة سيدة النجاة بالعراق، وانتهاء بمذبحة كنيسة القديسين بالإسكندرية .
فقد أصبح التحضير لكل جريمة ارهابية ضد الأقباط يسبقه إما اتهام مباشر لهم (اغتصاب فتاة أو أسر المسلمات في الأديرة)، أو اطلاق الشائعات عن استهدافهم من قبل جهات خارجية (كالموساد وتنظيم القاعدة) ثم ترديدها عبر مواقع تحمل شعارات لها صبغة تؤكد مصداقيتها، وحين تقع الحوادث اللاإنسانية ضد الأقباط تنطلق أبواق الكتبة لتأكيد ما نبهوا إليه وحذروا منه أو لتبريره !
قبل أحداث العمرانية سربت نظرية المؤامرة الخارجية بكثافة لافتة للنظر في الإعلام، وعقب الصدام الدموي بين المتظاهرين الاقباط والأمن، كتبت مقالا في إيلاف بعنوان quot; أحداث العمرانية والمخابرات الاسرائيلية quot; أكدت فيه: أن الحديث عن جهات وأصابع خارجية في أحداث العمرانية، معناه أننا نعيش في دولة quot; رخوة quot; أو quot; فاشلة quot; مخترقة ومستباحة، لاسيما وأن القائلين بهذه النظرية التي تلغي العقل وتبعده عن الفاعل الحقيقي، لم يحددوا لنا من المقصود بهذا الاختراق (بالضبط): هل هم الأقباط أم المسئولين أم جهاز الأمن؟ .. السؤال نفسه لايزال قائما ومطروحا في مذبحة الإسكندرية، يبحث عن اجابة تحفظ ماء الوجه؟
أحداث كنيسة القديسين الدموية أكدت في مطلع العقد الثاني من الألفية الثالثة: سحب البساط تماما من تحت أرجل الاقباط وتفجير السقف الذي يحتمون به ليصبحوا في العراء دون حماية، بدأ هذا الاستهداف المنظم منذ السبعينيات من القرن العشرين بانسحاب الدولة من ممارسة دورها كمظلة للمواطنة الفعلية القائمة علي المساواة بين المواطنين جميعا، بصرف النظر عن هويتهم الدينية أوالعقائدية أو الإيديولوجية، وهو ما دفع الأقباط إلي الاحتماء بالكنيسة من ظلم الاضطهاد وبمرور الوقت تحولوا(رغما عنهم) الي طائفة أو ملة داخل الوطن لها كبير تتعامل معه الدولة، ثم سحبت الدولة رويدا رويدا هذا البساط من تحت أرجل هذا الكبير بإحراجه دائما والضغط عليه واهانته في وسائل الاعلام (الرسمية) و(الدينية) ومن علي منابر المساجد، وأخيرا وليس آخرا تم ضرب (الكنيسة) كمكان للعبادة والتضرع والشكوي؟
في تصوري أن أبواب الجحيم زحزحت بالفعل في مطلع اليوم الأول لعام 2011 وما نراه الآن ما هو إلا أبخرة قليلة ستزداد كثافتها مع الوقت، ومصر ndash; التي بح صوتنا لإنقاذها ndash; أصبحت ذاهبة باتجاه المجهول، إذا لم تحسم خيارها المدني وتحتمي بمواطنيها جميعا لا أن تحميهم فقط، علي مصر أن تثبت أمام العالم ايمانها بسيادة القانون، وعدالة القانون، وأبرز خصائص هذا العدالة أن القانون يسري على جميع المواطنين، ودون هذا الخيار العاجل والحاسم فإن كل محاولات التجميل بمكياج المؤامرة الخارجية سيلطخها لهيب الأحداث والحوادث بالدماء، بل أزعم أن هذه المحاولات اساءت جدا الي الدين الاسلامي نفسه ndash; دون ان تدري ndash; والذي يظهر وكأنه المتهم الأول والأخير عن العنف ضد المسيحيين، وهو الأمر الذي (قد) تترتب عليه في نهاية المطاف تداعيات خطيرة بين النظام وكل القواعد الإرهابية في العالم، التي تحاول العثور علي آليات للعنف والخراب والدمار يضمنها النص الديني، ولن تعدم أبدا الذرائع الجاهزة والمسبقة لتبرير عنفها الدموي؟
- آخر تحديث :
التعليقات