في نهاية شهر سبتمبر 2011م تجدد اعتقال الدكتور محمد العمار من مدينة نمر من حوران. والدكتور العمار يمثل تيار اللاعنف في مؤتمر المعارضة الذي عقد في دمشق. وأذكره جيدا من الجولان حين جلسنا سوية فكتبت عشر صفحات بعنوان لماذا اخترت اللاعنف وجلسنا سوية نتناقش في هذه الأفكار.
الدكتور عمار طبيب في مدينة نمر يداوي الأبدان والعقول، ورائد لأفكار اللاعنف، يشبه الحواري بطرس مع جودت سعيد داعية اللاعنف السوري.
أتذكره جيدا بمعشره الحلو، وتفاؤله بالمستقبل، واعتياده زيارة فروع المخابرات في درعا للتحقيق معه حول كلمة قالها في خطبة الجمعة، ودقة ألفاظه، وابتسامته التي لا تغادر محياه وقناعته الراسخة بالخيار السلمي في التغيير.
قبل هذا المعتقل دخل الحبوس البعثية لمدة شهر وكان (آصف شوكت) الرأس الاستخباراتي قد دعاه للحوار فكان رأيه واضحا في نهاية الحقبة البعثية، وأنه لابد من الانتقال السلمي التدريجي إلى دولة الديموقراطية.
كان آصف شوكت يهز رأسه بالموافقة واظهر له الاحترام الكبير ولكن النهاية جاءت بعد خروجه من مجلس رجل المخابرات فقد انتهى أمره إلى أقبية المخابرات، وحين اتصلوا بداعية اللاعنف جودت سعيد يدعونه إلى الحوار قال لهم لقد دعوتم غيري فاعتقلتموه، وإن أردتم حواري فتعالوا أولا لاعتقالي فسكت الرفاق!
وهذا له أكثر من معنى مشاركة تيار اللاعنف في خضم الثورة السورية،كما يدل على أن النظام السوري الاستبدادي لا يستثني أحدا ممن يعارض أكان من تيار اللاعنف أو العنف. ولكن أهميته في النتائج أكثر من الاعتقالات؛ فقد تقود الاعتقالات إلى تثبيط العزيمة وقد تشحنها لمزيد من الكفاح والتظاهر، وهذه هي أهمية نظرية اللاعنف في الثورة العربية الكبرى اليوم، سواء منها تلك التي نجحت أو مازالت تقاوم كما في اليمن وسوريا.
واعترف للقارئ أنني فوجئت بانتشار مبدأ اللاعنف في الثورة العربية الكبرى من تونس حتى اليمن، بل إلى درجة ترداد بعض الآيات التي كنا نستخدمها منذ ثلاثين عاما عن صراع ولدي آدم وأن الثاني قال للأول لن أمد يدي بالقتل حتى لو فعلت أنت ذلك.
وحاليا هناك خطر على الثورة السورية أن تدخل الأرض الحرام باستخدام السلاح فتخسر خسرانا مبينا.
ولكن كيف نفهم فكرة اللاعنف في تأسيسها الأخلاقي والقانوني وأهمية استمرارها في سوريا بهذه الوتيرة فلا تنزلق إلى المستنقع الليبي.
الأساس الأخلاقي لفكرة اللاعنف
استطاع غاندي إنهاء الاحتلال البريطاني من الهند بدون أن يموت خمسة ملايين كما حدث في فيتنام أو مليون في الجزائر. ليس هذا فقط بل باحترام الخصم وإعجاب العالم وامتلاء القلب بالإعجاب بهذا الرجل بتطويره طريقة عجيبة محتواها أخلاقي أن الخصم يمكن هزيمته من داخل ضميره أكثر من قتله أو دحره في ساحات القتال .
إنها طريقة جديرة بالتأمل.
يعتمد المحتوى الأخلاقي لفكرة اللاعنف على ضفيرة من سبعة أفكار تأسيسية :
(1) أولاً: العنف هو سعي إلى مصادرة حق الآخر في الوجود كذات مادية وهذا هو العنف المادي . أو كذات فكرية وهو العنف الرمزي سواء كان فعلاً مباشراً أو رد فعل على عنف الآخر .
(2) ثانياً: العنف يبدأ فكرة في الذهن أو شعورا في القلب من تحقير الآخر والانتقاص منه والاستخفاف به واعتباره الأدنى الذي يجب تطهير الأرض من دنسه وينتهي دماء على الأرض وفسادا في البر والبحر .
(3) ثالثاً: العنف لا يحل المشاكل بل يعقدها أكثر ويولد المزيد منها ولا يقود إلا إلى المزيد من العنف ولو على المستوى الزمني البعيد . والسلم لا يؤدي إلا إلى مزيد من السلم ولو على المستوى الزمني البعيد .
ويعلمنا القرآن قاعدة ذهبية في التعامل إن استطعنا أن نصعد إلى مستواها (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم).
(4) رابعاً: في عالم الطفل قد نستطيع ردعه كطريقة تربوية فاشلة بضربه فيتوقف عن ممارسة بعض السلوكيات ولكنه داخل نفسه لن يتوقف عن ممارستها ما لم يقتنع بذلك ويعود إلى نفس السلوك بمجرد زوال التهديد والعقاب ويذكر القرآن بهذه السيكولوجية (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) أي أن المنعكس الشرطي النفسي قائم وحال زوال الردع ترجع النفس لممارسة السلوكية السابقة .
وهذا يعني في حقل التغيير أن العنف لا يغير لأنه لا يلامس الوتر الذي يجب أن يعزف عليه أهل الإصلاح والتجديد وهو وتر تغيير ما بالأنفس . بكلمة ثانية تشبه القانون الرياضي : هناك عنف ليس هناك تغيير . هناك سلم واقتناع هناك تغيير في السلوك.
(5) خامساً: هناك علاقة تلازمية بين العلم والسلم . كلما ازداد الإنسان نضجا ورشدا وتسلح بالعلم مال إلى حل المشاكل سلميا والعكس بالعكس.
(6) سادساً: وصل عالم الكبار إلى إدراك هذه الحقيقة مرغما وبمعاناة شديدة وبكلفة مريعة من الضحايا والدماء ولكنه مازال متخلفاً أخلاقياً ويبيع السلاح للدول الفقيرة أو الجاهلة مع معرفته الأكيدة أنها عتاد ميت وهكذا فإن الحرب توقفت ولكن الوهم مازال قائما أنه يمكن الاستمرار بحل المشاكل بالحرب كما ظن ميلوسوفيتش وصدام وشارون وبوش أو القذافي والأسد.
(7) سابعاً: الحرب تهدف إلى كسر إرادة الخصم أي إلغاء الآخر وبالتالي فإن نهاية الحرب هي تحطم إرادة وبقاء إرادة وحيدة تملي القرار في الساحة، وهذا خطر على الطرفين؛ فوسط من هذا النوع يولد كائنين مريضين مستكبر ومستضعف . وهذا يفتح دورة الصراع من جديد .
فهذه سبعة أفكار تأسيسية في المغزى الأخلاقي العميق لفكرة اللاعنف.
دورة العنف ودورة اللاعنف
العنف دورة مجنونة لا تأتي إلا بالعنف. والعنف دورة تزداد اتساعا والتهابا. والعنف لا يحل مشكلة بل يخلق مشاكل. فهذه حقائق أساسية في سيكولوجية البشر. ومن يتغافل عن سنن الله فإن قانون الله لا يغفل عنه. وما ربك بظلام للعبيد.
ومن يرى أن القتل أفضل الحلول هو مثل الطبيب الذي يعالج مريضه بالتخلص منه وليس تخليصه من المرض؟
وفي كتاب (البؤساء) تبدأ القصة من سرقة رغيف خبز من اجل إطعام أطفال جياع لتنتهي في السجن لتسع عشرة سنة. هكذا كتب (فيكتور هوغو) روايته العالمية عن (جان فالجان). ويقول طالما كان في العالم بؤس وشقاء وجهل فيجب أن تكتب مثل هذه الروايات. والذي ثبت أن السجن لم يخرج مواطنا صالحاً بل مجرما عتيا. بسبب مسلسل التمرد والعقوبة التي كان يقودها الشرطي (جافير) حرصا على تنفيذ القانون.
والذي حرر جان فالجان من الأفكار الشريرة السوداء لم يكن السجن أو القانون بل قس كافأ سرقته بالصفح عنه. وأفضل ما يؤخذ من الإنسان ليس والإكراه بل الإيمان. والقس رأى المنظر خارج إطار القانون والعقوبة. ومن ينبوع الحب والمغفرة ولد إنسان آخر هو العمدة (مادلين) الذي أحيا مدينة كاملة.
وعلى نفس الغرار كتب ديستوفسكي روايته (الجريمة والعقاب) ليقول لنا أن (راسكولنكوف) هو مجرم في داخل صدر كل منا. وأن المجتمع هو الذي يجعل البشر مرضى بالعنف والجريمة. وهذه الروايات تنفع في شرح الأبعاد السيكولوجية لآلية العنف وحدوثه.
وكما يقول سقراط إن كان لي الخيار بين الظالمين والمظلومين فأحب إلي أن أكون من الفريق الثاني. وهذا أمر سيكولوجي له نتائج في تحفيز الوعي واللاوعي لنصرة المظلوم ونرى هذا جليا عند الشيعة والمسيحيين. فأما الشيعة فهم يجلدون أنفسهم في عاشوراء كل عام إحياء لذكرى المقتول ظلما الحسين. ويقبل الناس على رؤية فيلم المسيح فيبكون في فيلم المسيح الجديد بعد مرور ألفي سنة على محاولة صلبه. فأنجاه الله. لأنه يذكر بمصرع الحسين على نحو أشد سلامية.
وهذا القانون نفسي ينطبق على جميع الناس فيحرك مشاعر التضامن لكل المظلومين الذين قضوا من أجل أفكارهم فلمع اسمهم بأشد من الشعرة اليمانية في أفق الإنسانية مثل (ابن رشد) و(جيوردانو برونو) و(جان هوس) و(السهروردي) و(قرة عين) و(جان دارك) و (ابن تيمية) و(سيد قطب).
وهناك من يخلط الآيات القرآنية وهي آيات متناثرة مثل نجوم السماء. ولولا الإسقاط العقلي على نجوم الدب القطبي ما عرف الناس الشمال من الجنوب. وآيات القرآن كذلك ففيها (كفوا أيديكم) وفيها (اقتلوهم حيث ثقفتموهم) وفيها قصة (نبأ ابني آدم بالحق). فيجب وضع صورة بانوراما لمعرفة المحيط من الإطار وقوانين الطوارئ من أحكام السلام. ويا أيها الذي آمنوا ادخلوا في السلم كافة.
ويجب أن نستوعب أن إسرائيل لم تكن لتوجد لولا المرض العربي. وهو أمر لا يعترف به العرب. وأنه لولا انهيار الجهاز المناعي العربي ما انفجر الالتهاب الصهيوني. ولولا وجود المستنقعات ما تكاثر البعوض وانتشرت الأمراض. وفي الوقت الذي يتعافى فيه العرب فلن تزيد إسرائيل عن فورموزا الشرق الأوسط. ولكن أن تقطع أنف أحدهم بالمقص وبدون تخدير أسهل من استيعاب هذه الحقيقة؟
وهذا الأسلوب إنساني وأخلاقي واقتصادي ويمكن التخلص به من ديكتاتوريات الداخل والاحتلال الخارجي. ويمكن به قهر إسرائيل وإخراج أمريكا.
ولكن الشعوب تتعلم عادة بالعذاب أكثر من الكتابات فيزاد العذاب جرعة جرعة حتى ترجع أو تموت فتبتلعها قوى أفضل منها.
واليوم تنبه الرأي العام العالمي إلى عنف إسرائيل وظلمها وبدأت أسهمها في التناقص فيجب الرهان على الرأي العام العالمي وإعلان نبذ العنف. ولكن هذا يحتاج إلى وعي مختلف وأرضية معرفية متباينة.
ويجب أن نعلم أن ولادة إسرائيل تمت على يد قابلة أوربية. ومن أنجبها كان (الهولوكوست Holocaust) و(الحل النهائي Endloesung) النازي. ويجب أن يستوعب العرب حقيقة إسرائيل، وأنها امتداد الحضارة الغربية، وأنها ديموقراطية من الداخل وعنصرية من الخارج، وأنهم أشداء على الفلسطينيين رحماء بينهم. وأن الأوربيين أوجدوها لتبقى. وأن الأوربيين حلوا الهولوكوست على حساب العرب. وأنهم وضعوا العرب واليهود في قدر تغلي بالاثنين فأرسلوا اليهود إلى هولوكوست جديد. وأن إسرائيل محكوم عليها بالفناء. وأنها ولدت بأخطاء كروموسومية غير قابلة للحياة والاستمرار.
وأمريكا جاءت إلى المنطقة لأنه يجب أن تأتي؛ فالطبيعة تأبى الفراغ. وحيث نبتت الديكتاتوريات ماتت الأمم. ولا تحلق النسور إلا فوق الجيف.
وطرد الأجنبي سهل وبناء نموذج حضاري هو التحدي الأعظم.
أنا متفاءل اليوم بولادة الشعب السوري محررا من علاقات القوة وبالأسلوب السلمي. مع ذلك علينا أن لا نسرف في التفاؤل كثيرا فالعقل العلمي مفتوح على كل الاحتمالات.
لك مني كل التحية دكتور عمار سواء في نضالك السلمي وعسى أن نجتمع سوية في ارض حوران بعد غروب شمس البعثية فنقول الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور.
التعليقات