أن يقيس أحدٌ شرفَ الناس ودينهم ووطنيتهم بملبسهم أو مأكلهم أو بأغنية غنوها أو صورة رسموها أو تمثال أقاموه فتلك آية من آيات التخلف والتزمت وضيق الأفق وقصر النظر. أما أن تفعل ذلك دولة بحجم إيران تـُـشغل وزاراتها وسفاراتها وأجهزتها المخابراتية والأمنية والدفاعية والمالية والتعليمية والثقافية بهذه القشور، وتنغص العيش على شعبها بهذه السفاسف من الأمور فتلك مصيبة لا تعدلها مصيبة. ثم حين تحاول تصدير ذلك التخلف والتزمت إلى جيرانها وجيران جيرانها، وتشعل حروبا ومعارك، وتدبر مؤامرات ودسائس، وتنفق الملايين والمليارات من أجل ذلك، فهو الحمق بعينه، والغباء على أصوله، واللعب العبثي بنار مؤذية لابد أن تحرقها في النهاية.

فحين دمرت طالبان عام 2001، بالصواريخ، تلك التماثيل التاريخية الثمينة النادرة المنحوتة في صخر باميان من مئات السنين، باعتبارها أصناما يخالف وجودُها مبادئ الإسلام، أشعلت على نفسها حربا مدمرة أدت في النهاية إلى إسقاطها، وتمزيق مواكبها شر ممزق. وما زالت تدفع ثمن تلك الخطيئة المعيبة إلى اليوم.

هذا مع الاعتراف بأنها أضافت بتلك الفعلة الغبية القاصرة جريمة أخرى لا تقل ضررا عن جريمتها الأولى تلك. فقد شوهت صورة الإسلام الحقيقية، وصورت المسلمين، كلهم، بأنهم قتلة وهمجيون ومتخلفون لا يليق بهم أن يدخلوا القرن الحادي والعشرين، ولا أن يذوقوا مياه الحرية والديمقراطية والعقلانية والوسطية التي يسكبها على شعوب الأرض الواسعة، دون حساب ولا حدود.

وتقصير الثوب، أو إطلاق اللحية وصبغها، وتحليل السواك وتحريم فرشاة الأسنان، واعتبار التلفزيون والسينما والموسيقى والغناء، بالتعميم المطلق، بدعا من بدع الشيطان، (وكلُ بدعة في النار)، واعتبارُ ربطة العنق دسيسة استكبارية مشبوهة، كل هذه قشور سطحية ليست من الإسلام في شيء، بل هي فهمٌ قاصر لروحه السمحة التي تدعو إلى استخدام العقل واستيعاب العلوم والاختراعات، لتسهيل حياة المسلمين، وإغلاقٌ للعقل، ومنعُه من التحرر والتطور والتحضر، وعودةٌ به إلى ظلام الأمية والجهل والخراب.

تجرني هذه المقدمة إلى الصراع الطائفي العقيم بين العراقيين، سنة وشيعة، والذي يشعله ويصبُ على نيرانه الملتهبة زيتهَم الطائفيَ الخبيث رجالُ دين مؤتمنون على أمن مواطنيهم وأرزاقهم وأرواحهم، باسم الطائفة والدين، وهما من ذلك براء.

فهل الصراع الذي يشتعل في العراق اليوم مبرر ومنطقيٌ وموضوعي بين متدينين صادقين وحقيقيين، من الطائفتين، يجادل بعضُهم بعضا في أمور الدين والعبادة، أكثر من أمور الدنيا ومنافعها الفانية؟ أم هو بين جلاوزة و(حنقبازية) و(شلاتية) يتقاتلون على المنافع والمراتب والمواقع، بدوافع شخصية أنانية خالصة، أو بأوامر وتعليمات وإرشادات أصدقاء وأشقاء من الشرق أو من الغرب، دون حساب لما ُيلحقونه بأهلهم من عذاب وقلق وخوف وعوَز وحرمان؟

إن الثابت، تاريخيا وعلميا وفقهيا، أيضا، أن التشيع بدأ سياسيا محضا، في صراع على الخلافة، ثم ألبسه، بعد ذلك، رجال دين مغرضون ثياب الاختلاف العقائدي على تفسير بعض ما ورد في القرآن الكريم والحديث والسنة، وهو ليس كذلك. وها هو الآن، بعد سنين من الجدل والمشاكسات والاحترابات، يتمركز في خلافات شكلية عابرة، مختصرة على المراسم وطقوس العبادة، واللباس. ولإيران اليد الطولى في تعميق هذه الفروق وتغذيتها وتأجيجها بين العرب الشيعة والعرب السنة لأغراض سياسية قومية لا مجال إلى إنكارها.

فهي لم تهتم، ذات يوم، بالوعظ الفكري الثقافي الديني المتسامح، من أجل ردم هوة الخلاف بين المسلمين، ولخدمة الفكر الشيعي نفسه، وتطويره وتعميقه، ورفده بالوسطية واحترام الطوائف والأديان الأخرى. بل تفانت، وتتفانى، في تجذير الصراع، وفي حقن المزيد من الكره لباقي الطوائف والأديان، ومن ثم تجييش أبناء الطائفة الشيعية العراقية لخدمة أهدافها السياسية المخالفة لأبسط تعاليم الإسلام التي لا تدعو سوى إلى التعاون على البر والتقوى، وليس على الإثم والعدوان.
فلو كانت إيران، في عهدها الطائفي الحالي، تهتم، حقا وواقعا، بشؤون أبناء الطائفة الشيعية في العراق، لمنعت حلفاءها الحكام (الشيعة) من ممارسة القمع ضد مخالفيهم في الرأي والسياسة والسلوك، من أبناء الطائفة، ولأمَرتهْم، مثلا، بتوفير الخدمات وتحقيق العدالة وتحريم الرشوة والاختلاس في المحافظات الجنوبية الشيعية، على الأقل.

وما احتجاجات مرجعية السيد السيستاني المتواصلة وشكواها من فساد الحكام المتنفذين، وهم شيعة، إلا دليل قاطع على أن معانات المواطن الشيعي العراقي، وناهيك عن معاناة أخيه السني العراقي، هي آخر ما يهم إيران أو تفكر به وتنفق عليه ولو بعضا قليلا من جهدها الكبير الذي تبذله من أجل نشر الفساد والفرقة، وإرهاب المواطنين، وتمويل وتسليح عصابات القتل والتشليح والاغتصاب، كعصائب أهل الحق، وغيرها.

ما دفعني إلى الحديث عن هذه المسألة الشائكة ثلاثة أخبار خطيرة.
الأول: quot; أعلنت ايران، في بيان أصدرته وزارة الخارجية الإيرانية، أنها ستواصل دورها في دعم المسار السياسي في العراقquot;.

الثاني: quot; أكد السفير (حسن دنائي فر) في مؤتمر صحافي في بغداد، فيما يخص انسحاب القوات الأميركية من العراق وأثره على العلاقات بين طهران وبغداد أن العلاقات بين أيران والعراق هي أعمق من أن تتأثر بمثل هذه القضايا، ولدينا علاقات خاصة مع العراق، سواء في فترة وجود القوات الأميركية، أو بعد انسحابها.quot;

أما الثالث فأخطر الثلاثة على الإطلاق:
quot; هاجم السيد مقتدى الصدر جماعة quot;عصائب أهل الحقquot; التي قررت القاء السلاح والانخراط في العملية السياسية في الأسبوع الماضي، واتهمها بقتل سياسيين وعناصر في الجيش والشرطة العراقييْن، بحجة quot;العمالةquot;.

وأضاف السيد الصدر يقول: quot;لقد طلبت من مسؤوليهم في الجمهورية الإسلامية أن يغيروا اسم العصائب، وأن يغيروا القيادة الثنائية، ليكون بابا لرجوعهم لأبيهم الصدر، والمكتب الشريف، فأبت كلُ الأطرافquot;.

ويذكر أنها المرة الاولى التي يشير فيها مقتدى الصدر الى أن ايران تدعم هذه المجموعة التي كانت أمريكا دائما تتهمها بدعمها، فيما كانت هي تنفي علاقتها بها.

إذن فإيران هي صاحبة عصائب أهل الحق، مثلما كانت صاحبة جيش المهدي، وراعية زعيمه مقتدى، قبل أن تقرر تقزيمه وبالتالي إخراجه من اللعبة السياسية في العراق، وإحلال العصائب مكانه، من الآن وإلى موعد الانتخابات المقبلة.

هذا بالإضافة إلى ما يشاع من اتهامات لدولة الولي الفقيه بتمويل وتسليح وتسهيل مهام القاعدة (السنية) في العراق، رغم أن أغلب عملياتها الإجرامية مصممة لاستهداف مواطنين شيعة، في مواكبهم الدينية أو أسواقهم أو مدارس أطفالهم.

إيران في العراق لتخريبه وتمزيقه وإغراقه بالدم والدموع، لأهداف قومية فارسية خالصة، ليس للطائفة الشيعية فيها ولا للفكر الشيعي صلة، لا من قريب ولا من بعيد، في حلف غير مقدس مع من وصفهم مقتدى الصدر بأنهم quot; قتلة لا دين لهمquot; والعياذ بالله.

وكما أن نهاية طالبان جاءت نتيجة لما اقترفته من أفعال غوغائية ممجوجة، بحق شعبها وجيرانها والعالم، فإن نهاية العربدة الإيرانية السابحة ضد الزمن لن تكون بأفضل من ذلك، وحق الكعبة. وقد تكون بداية نهايتها في سوريا، وقد تكون نهايتها في مضيق هرمز، تابوت أحلامها الأخير.

يومها لن يبقى لإيران المتزمتة موقع قدم، في العراق، وسيفر حلفاؤها، مبكرا، وقبل فوات الأوان، مُحملين بما اختلسوه من أرزاق الشيعة، قبل غيرهم من مواطنين عراقيين آخرين. وإن غدا لناظره قريب.