يتحدث بعض صناع القرار السياسي العراقي عن (ضرورة) تكتل عراقي سياسي جديد (بريء) من الانتماءات المذهبية بل وحتى القومية، اي كتلة عابرة لجزر (الطائفية) و(العنصرية) على حد تعبير هؤلاء السياسيين، ويرى هؤلاء السياسيون أن خلاص العراق من محنته بل محنه السياسية والامنية والاقتصادية تكمن في هذا الانجاز الذي يجب أن يرى النور فورا.
ليس من شك وكما يرى الكثير من المهتمين بالشان العراقي إن مثل هذا (التكتل) ضرورة قصوى، وهو سبب مهم في عبور العراق لمشاكله التي اصبحت وكانها مزمنة، وعلى راسها المشكلة الامنية التي مهما قال المسؤولن العراقيون إنها على طريق الحل تبقى قوية نشطة للاسف الشديد.
ليس كل ما يتمنى المرء يدركه، هذه بداهة قيلت وتُقال دائما، وهي بداهة صحيحة بحكم الواقع والتاريخ، وفي ضوء هذه البداهة يُطرح سؤال حقا، تُرى هل مثل هذا (التكتل)العراقي الوطني العابر لجزر (الطائافية) و (العنصرية) ممكن؟
يجيب مهتمون بالشان العراقي بالسلب للاسف الشديد، ولم يكن جوابهم هذا عن تعنت أو جهل أو غرض مبيَّت بل هو الجواب الاقرب للواقع...
لماذا؟
أولا : اللغة الطائفية أو لغة الاصطفاف الطائفي تحولت إلى لغة يومية في السياسة والاقتصاد والتحالفات والمواقف المتبادلة بين الشعوب والدول في ا لعالم العربي للاسف الشديد، وإنفلات العراق من هذه اللغة اشبه بالخيال، أو لنقل بمثابة امنيات تداعب ضمائر بعض العراقيين من الساسة الكبار بل ربما حتى على مستوى مكونات الشعب العراقي.
ثانيا : إن مثل هذا التكتل يحتاج إلى صنَّاع قرار سياسي مستقلين الراي والموقف، وصنَّاع القرار السياسي العراقي في الغالب عبارة عن اجندة خارجية بكل معنى الكلمة، ايران وتركيا والسعودية وقطر هي المتحكمة تقريبا في القرار السياسي العراقي اقليميا، وامريكا وروسيا عالميا، فمن أين القدرة على تشكيل مثل هذا التكتل / الامنية العزيزة؟ لا نتكلم عن فراغ فهذه قضية معروفة، ومن يتصور أن قرار شراء بعض الاسلحة من روسيا وتشيك خطوة على طريق سيادة القرار السياسي العراقي في أعلى مستوياته مبالغ، وهي عملية ما زالت هشة لاسباب عديدة لا مجال للحديث فيها الآن.
ثالثا : غياب الثقافة الوطنية في العراق، لقد تسيَّدت الثقافة الدينية والمذهبية والقومية على العقل والضمير والوجدان في العراق، كما هي الحالة في اكثر بلدان ودول وأنظمة العالم العربي بل الاسلامي، ولنا أن نستفهم عن دور النشر العربية عن نوع ونماذج الإصدارات الرائجة في سوق الكتب، سيكون الجواب إنها الاصدارات الدينية وخاصة السلفية سواء في هويتها السنية أو هويتها الشيعية.
رابعا : لم يعد هناك تفاعل حقيقي بين رموز وصنَّاع القرار السياسي العراقي والقواعد الشعبية او مكونات الشعب العراقي، ومسح بسيط يكشف للاسف الشديد عن أن صناع القرار السياسي بعد التغيير في العراق ما زالوا انفسهم صناع القرار السياسي اليوم، فالوجوه نفسها، والعقليات نفسها، ومثل هذه المفارقة لا تشجع على مثل المشروع المطروح أو المشروع المامول،اي تكتل عراقي وطني شامل يتخطى تضاريس الطائفة / المذهب، العنصرية / القومية، والغريب إن هذه الوجوه والعقليات لا تسمح لغيرها بالظهور والنشاط، بل تحولت إلى مافيات سياسية اقتصادية ليس عبر اشخاصهم وحسب، بل ضمن مافيات اسرية وعشائرية راحت تلتهم الدولة وتصهرها في مصالحها الضيقة، وإلاّ بماذا نفسر تصريح احد كبار المسؤولين في وزارة الخارجية العراقية بان معهد التاهيل الدبلوماسي في العراق عبارة عن قطاع خاص بابناء المسؤولين وحسب؟!
تطرح (القائمة العراقية) بقيادة اياد علاوي نفسها بانها تجسد مشروع الكتلة العراقية الخالصة، اي البريئة من التمحور الطائفي، وفي الحقيقة هذا مجرد إدعاء، فالقائمة العراقية تمثل الجسم السني العراقي بامتياز، قاعدتها الشعبية من سنة العراق، وتواجد بعض الشخصيات الشيعية في قيادة لقائمة لا يغير من هويتها السنية في الجوهر، لان الكتلة الوطنية الشاملة الخالصة تعني القاعدة الشعبية المختلطة بنسب كبيرة ومتوازنة ومتفاعلة، فهل هذه السمة حاضرة في جسد القائمة العراقية؟
لقد حاول رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي أن يخطو على هذا الطريق في الانتخابات البرلمانية الاخيرة، وانشق من كتلته الاكبر، وتحالف مع قوى سنية فاعلة في وقتها، ولكن سرعان ما تصدعت المحاولة فاضطر للرجوع إلى كتلته الاكبر، فهل تُعاد المحاولة؟
إن فشل رئيس الوزراء العراقي بتشكيل مثل هذا التكتل وهو الذي يملك السلطة والمال والنفوذ فكيف بجهود آخرين في هذا المضمار؟
ان تمزيق الكتل الكبيرة رغم انتماءتها المسماة المذهبية والقومية على أمل تشكيل تكتل عراقي (بريء) من هذا التسميات شكلا ومضمونا عملية ليست مجدية، وربما ليست في صالح العراق، وقد تزيد من مشاكله، إن سعي القائمة العراقية ـ على سبيل المثال ـ لكسب شخصية شيعية محسوبة على دولة القانون لا يعني أن خطوة على طريق هذا التكتل المنشود قد أُنجزت، كذلك العكس، وليس من شك أن مثل هذا التفكير يعبر عن عدم وعي هذه القيادات للغة مجتمعها وتاريخه وجغرافيته.
- آخر تحديث :
التعليقات