لاكثر من ثلاث سنوات كتبت مقالا في ايلاف عن امكانية سياسة خارجية عراقية مستقلة، أو بتعبير آخر سياسة خارجية تقوم على فكرة تساوي المسافات بين القوى العالمية والاقليمية الفاعلة في منطقة الشرق الاوسط، وكنت أقصد بالقوى الفاعلة في ذلك المقال بالتحديد، امريكا من جهة والجمهورية الإسلامية الإيرانية من جهة ثانية، وقلت في وقتها: إن ذلك مستحيل، فلا القيادة السياسية في العراقي تملك الذكاء والمهارة والخبرة الكافية، ولا العراق قوي اقتصاديا وعسكريا وامنيا بالشكل الذي يمكِّنه من ذلك، واليوم يعاود السؤال طرح نفسه ولكن مع بعض الاختلاف، تُرى هل يستطيع العراق انتهاج سياسة خارجية تقوم على مسافات متساوية من ظاهرة المحورية العالمية والاقليمية في المنطقة؟ وبصريح العبارة بين محور روسيا الاتحادية وإيران وسوريا من جهة وامريكا وتركيا ومصر ودول الاتحاد الخليجي والاردن واللواحق من جهة أخرى؟
الجواب كما يرى مهتمون في الشان العراقي يؤكد صعوبة ذلك، والاسباب نفسها السابقة مع زيادة، فالعراق ليس دولة قوية عسكريا بما فيه الكفاية ليحقق مثل هذه الاستقلالية الخاصة به، والقوة العسكرية ليست طائرات وجيشا مفككا، والعراق ليس قويا اقتصاديا، والقوة الاقتصادية ليست اموالا طائلة في السوق، والعراق ليس بالمستوى الناضج من الوئام الاجتماعي بكل صراحة، والعراق ليس جغرافية تحت سيطرة المركز بشكل محكم وحكيم، والعراق ليس مستقرا امنيا كما هو واضح وبيِّن للعيان، ثم، وهذا مهم للغاية، صناع القرار السياسي العراقي منقسمون ولائيا بين هذا المحور وذاك، والقرار السيادي ا لعراقي ضعيف، وبناء على كل هذا فإن سياسة الناي الكامل بالنفس في خضم هذه التناقضات والتجاذبات عملية في غاية الصعوبة، أي هو مضطر إن يكون مفردة في هذا المحور أو ذاك،وفكرة اللعب على هذه التناقضات والتجاذبات نحو ضرب من الخيال، خاصة مع تلك المفارقات المخيفة، ولعل البقاء على سياسة التذبذب تضر بالعراق أكثر مما تحميه، فما عليه سوى التفاهم مع هذا المحور أو ذاك، ولكن مع الاخذ بنظرالاعتبار وبشكل جدي وصارم مصالح الشعب العراقي بالدرجة الاولى، ينبغي في هذه الحال على العراق أن يقوم بمسح عملي للاوضاع في العالم العربي ويستنتج إلى أين تسير كفة هذه التمحور، وان يدرس بشكل جيد ودقيق إ مكاناته العسكرية والامنية والاقتصادية في سياق قراءة موضوعية لمحيطه الجغرافي، ثم، مدى حضور وفاعلية كل من طرفي الحرب الباردة الجديدة في الشرق الاوسط، اي روسيا الاتحادية والولايات المتحدة الامريكية، ومدى حضور كل من محوري التجاذب (الطائفي) في المنطقة والعراق بالذات، أي محور تركيا ودول الخليج والاردن ومصر ولاحقا منظمة التحرير الفلسطينية وحماس هامشيا من طرف، ومحور إيران وسوريا وحزب الله اللبناني من طرف، وعلى ضوء هذه القراءات ينبغي أن يتخذ الموقف الذي يخدم مصالح العراق، وذلك على صعيد أمنه الوطني، وأمنه الاجتماعي، ومصالحه الاقتصادية، في حاضره ومستقبله، وليس من شك أن ذلك يجب ان يكون بالتفاهم والحوار بين أفرقاء العملية السياسية بشكل عام، وليس شرطا أن يكون التفاهم كليا بحيث يشمل كل أفرقاء العملية السياسية وبكل مفردات الموقف، فلسنا نعيش في عالم مثاليات واخلاق، بل في عالم الصراع على القوة والمصلحة....
إن سياسة الناي (الكامل) بالنفس عن كل هذه المفارقات عملية خيالية، كما أن محاولة اللعب (المستقل) على أطراف النزاع في العالم والمنطقة لا تسمح به ظروف العراق على الاطلاق حتى بالتفاهم بين افرقاء العملية السياسية، المطلوب تحديد موقف نهائي في ظل هذه الخبطات السياسية المقلقة، وإلا سيكون العراق نهب الجميع، وسيبقى ساحة صراع شديد بين مختلف أجندة دول العالم الكبرى ودول الجوار، سيبقى كرة تتقاذفها القوى الفاعلة العالمية والاقليمية في الشرق الاوسط، هكذا تقول مدرسة السياسة الواقعية.