ثمة جدل كبير في تركيا هذه الأيام بشأن ما بات يعرف بمعايير أنقرة، وهي معايير يطرحها رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان بديلا عن معايير كوبنهاجن الأوروبية بعد أن تعثرت مسيرة إلتزام تركيا بهذه المعايير حيث يعد هذا الالتزام شرط لقبول عضوية دولة مرشحة لنيل العضوية الأوروبية. ورغم عدم وضوح معايير أنقرة من النواحي القانونية والسياسية والدستورية ولجهة حفاظها على التعددية وحقوق الإنسان وحماية الأقليات القومية والدينية.... والتي هي جميعها من صلب معايير كوبنهاجن، فانه من الواضح أنها باتت في سلم أولوية اردوغان لترتيب البيت الداخلي التركي من جديد،وبما يتناسب الخيارات السياسية لتركيا في الداخل والخارج حيث الانخراط شرقا، خيارا وسلوكا وثقافة،بات أكثر من السعي إلى خيار العضوية الاوروبية بعدما فشلت المساعي التركية في نيل هذه العضوية على الرغم من مرور أكثر من نصف قرن على تقديم تركيا أول طلب للعضوية. اليوم، وخلافا لمرحلة ما بين أعوام 2002 و 2005 لا تبدي تركيا أي حماسة لمسألة الانضمام إلى الاتحاد الاوروبي، وبسبب ذلك أوقفت أنقرة مسيرة الإصلاحات المطلوبة أوروبيا بغية تكييف القوانين التركية مع قوانين الاتحاد الاوروبي ومعايير كوبنهاجن بهذا الخصوص والتي تزيد عن ثمانين ألف صفحة،بل ثمة من يرى ان هناك رغبة شديدة لدى اردوغان في التراجع عن بعض الخطوات التي اتخذت بناء على مقتضيات السعي لنيل العضوية الاوروبية في المرحلة الماضية . لعل السمة العامة لمعايير أنقرة هي محاولة تشريع مجموعة من القوانين التي تتفق مع التطلعات السياسية لاردوغان وتجسيد ذلك في خيارات السياسة الداخلية والخارجية لتركيا، ومن أهم معالم هذا التوجه :

1- مطالبة اردوغان مؤخرا بإعادة العمل بعقوبة الاعدام، وهو في طلبه هذا يتحجج بوجود رأي عام تركي مؤيد للعقوبة، وهو هنا يوجه الهدف نحو زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، الذي بقي محافظا على كاريزميته القيادية حتى داخل السجن، حيث فشلت كل الجهود التركية في تطويعه لصالح رؤية اردوغان بخصوص القضية الكردية وتحديدا مصير حزب العمال الكردستاني.

2- عدم إشارة اردوغان خلال خطابه في المؤتمر السنوي الأخير لحزب العدالة والتنمية بكلمة واحدة إلى الاتحاد الأوروبي رغم انه تحدث لنحو ثلاث ساعات وتناول جميع المواضيع والقضايا المتعلقة بالسياسة التركية الخارجية والداخلية. 3- قضية التعامل مع اضراب أكثر من 700 سجين رأي كردي، فرغم مضي أكثر من شهرين على بدء اضراب هؤلاء السجناء الا ان حكومة حزب العدالة وتحديدا رئيسها اردوغان يتعامل مع الاضراب ومطالب المضربين بنوع من اللامبالاة خلافا للقوانين الاوروبية، وهو ما دفع بالعديد من النواب الأكراد في البرلمان وقادة الأحزاب إلى الانضمام إلى المضربين في وقت تشهد فيه المدن الكردية سلسلة تظاهرات تضامنية مع المضربين ومطالبهم، حيث هناك قرابة عشرة آلاف معتقل كردي بينهم نواب ورؤساء بلديات وقانونيون يتم اعتقالهم بشبهة التعامل مع حزب العمال الكردستاني.

4- أخر تقرير لمنظمة مراسلون بلا حدود اشارت إلى ان تركيا باتت سلم الدول الأولى لجهة قمع الحريات الصحفية،حيث تقول الأرقام ان أكثر من مئة صحفي يقبعون الآن في السجون بينهم 75 دون تهم، وان هناك 16 ألف قضية أمام المحكمة الاوروبية لحقوق الإنسان، بينها نحو ألف دعوى تتعلق بحرية الرأي، ومعظم القضايا المرفوعة تتعلق بانتقاد حكومة اردوغان وكشف العلاقات الخفية لحزبه.

5- خروج الخلاف بين اردوغان وعبدالله غل بشأن وضع دستور جديد للبلاد الى العلن، ومصدر هذا الخلاف هو محاولة اردوغان وضع الدستور الجديد على قياسه من خلال نظام رئاسي قوي يحل محل البرلمان ويتمتع بصلاحيات مطلقة، فيما غل يريد نظام رئاسي يحافظ على التجربة (الديمقراطية في البلاد) ويحول دون التحول إلى حكم رئاسي مطلق الصلاحيات. 6- لعل من أبرز مظاهر التباعد بين معايير أنقرة ومعايير كوبنهاجن، تلك المتعلقة بقضية الحجاب، ففي الوقت الذي حظرت فيه العديد من الدول الأوروبية الحجاب تسعى حكومة اردوغان إلى إصدار تشريعي يسمح بإرتداء الحجاب في الجامعات والمدارس والدوائر والمؤسسات الحكومية علما ان المحكمة الدستورية العليا سبق وان أبطلت مشروع قرار صدر عن البرلمان بهذا الخصوص . في الواقع، من الواضح ان المعطيات السابقة ليست سوى تعبير عن مدى التحول الذي تشهده تركيا في عهد اردوغان،على شكل التخلي عن العضوية الأوروبية وما يترتب على ذلك من إصلاحات سياسية وديمقراطية وفقا لمعايير كوبنهاغن، لتحل محلها معايير أنقرة الاستنسابية،أي القيام بالإصلاحات التي تنناسب والرؤية السياسية للحكومة، والتي هي في الحقيقة ليست سوى تعبير عن خيار العودة إلى الشرق في ظل تراجع جاذبية الخيار الأوروبي على وقع الأزمة المالية العالمية وتزايد النفوذ الإقليمي لتركيا والتطلعات الجامحة لحكومة اردوغان والتي باتت توصف (بالعثمانية الجديدة).