في مقالي المعنون quot;أوضاع العراق اليوم ليست كأوضاع 14 تموزquot; [ 18 تموز 2012 ،] تطرقت للتوتر المتصاعد بين المالكي وحكومة إقليم كردستان. وقد ورد في المقال، بصدد مجموعة تحركات الحكم المركزي: quot;كل ما نخشاه أن يكون مجمل هذه التحركات مقدمة لصدام مسلح سيكون كارثة للجميع وللعراق كله، ما لم يجر تدارك الأمور بحصافة ومرونة من كل الأطراف.quot;
في المقال، وفي مقالات سابقة ولاحقة، انتقدت تمسك أطراف الجبهة الكردستانية بشعار quot;التحالف الكردي ndash; الشيعيquot;، والقصد التحالف مع أحزاب الإسلام السياسي الشيعي الحاكم، حيث أن هذه الأحزاب لا تمثل كل شيعة العراق وتياراته السياسية والفكرية، وحيث أن هذا الشعار انطوائي ويعني إقصاء بقية مكونات العراق وأطيافه، العرقية والدينية والمذهبية والسياسية، وأيضا من حيث أن مركز تحالف القوى الكردستانية المدنية والديمقراطية يجب أن يكون تعزيز التعاون والتنسيق مع القوى والتيارات الديمقراطية والعلمانية العراقية. وإن وجود حكومة اتحادية في بغداد مدنية، ديمقراطية وعلمانية هو الشرط الحاسم لضمان حماية وتعزيز مكتسبات شعب الإقليم، كما هو ضمان للوحدة الوطنية المنفتحة. ومفهوم quot; تحالف كردي ndash; شيعيquot; يناقض مبدأ المواطنة العراقية وهو قد يفسر بالتمييز وروح الاستبعاد والإقصاء.
أما خلال الشهور الأخيرة. وبدلا من تهدئة الموقف، وخلق مناخ إيجابي للتوصل لحلول مقبولة، وبرغم اللقاءات بين وفود المركز والإقليم، فإن حكومة المالكي برهنت على عجزها عن التحلي بالمرونة والرغبة في إيجاد الحلول السليمة والعملية، كما وقعت في سلسلة تناقضات محيرة.
إذا ذهبنا أبعد قليلا، فسوف نلتقي باتفاق أربيل، الذي لم يلتزم به المالكي؛ ثم التوتر بسبب لجوء الهاشمي لكردستان؛ ثم الخلافات حول النفط،، ولكن أيضا تطورات الوضع السوري واتهام حكومة الإقليم بمساعدة أكراد سورية المعارضين للنظام السوري الدموي. وحين شكل المالكي ما يدعى بquot; قيادة عمليات دجلةquot;، فإنه برر ذلك في البداية بحجة الوضع السوري وهجمات على الحدود. أما اليوم، فالواضح أن تلك الخطوة كانت تصعيدا عسكريا خطيرا مع الإقليم، وهي اليوم البؤرة الكبرى للتوتر المتصاعد.
طالما قرأت انتقادات وإدانات، كما سمعت الاستغراب من أصدقاء يضمرون الخبر للشعب الكردي، حول وجود مكاتب كردستانية بجوار السفارات العراقية حيث أن هذه تجربة فيدرالية غير قائمة في أية من الدول الديمقراطية الفيدرالية، ولعلها خليط فيدرالي- كونفدرالي. وحين عدت للدستور الدائم، فقد وجدت العجب العجاب: فالدستور هو الذي يمنح هذا الحق للإقليم، بل لكل إقليم جديد، بل، وبل، حتى لكل محافظة!! فليقرؤوا بنود الدستور الذي حاكوه ونسجوه كما أرادوا. وأما حول النفط، الذي أدين الإقليم مرارا بسبب عقوده المستقلة، فإن الدستور نفسه هو الذي يجعل من كل إقليم وكل محافظة شريكا مع المركز في تقاسم الثروات الوطنية ولكن بلا تحديد دقيق للحقوق والصلاحيات. وبسبب هذا الغموض تم الاتفاق مع الإقليم عام 2007 على مسودة قانون للنفط والغاز على أن يعرض على البرلمان لإقراره. وورد في المسودة أنه بعد مرور فترة معينة من دون عرضه وإقراره، فمن حق كل طرف أن يمضي بعقوده النفطية. والآن، فمن الذي أعاق عرض المشروع على البرلمان لتنزاح الغمامة ولتتحدد الأمور والمسؤوليات، وبالتالي تتم المساءلة والمحاسبة على أساسها؟ إنها الحكومة المركزية نفسها، وبالذات. وهكذا عن تنفيذ مادة الدستور حول كركوك والخاصة بالاستفتاء والإحصاء، وعلما بأنني، وكما كتبت مرارا، مع حل مرض لكل الأطراف، ولست مع التسرع والانجراف وراء الحماس القومي من أية جهة كانت. فموضوع كركوك حساس جدا والمشكلة تستدعي منتهي التأني والصبر والحكمة.
أما عن قيادة عمليات دجلة في المناطق المتنازع عليها، فثمة اتفاقات رسمية سابقة منذ 2008 تقضي بتشكيل دوريات ووحدات مشتركة لضمان الأمن وملاحقة المخربين والإرهابيين. ومع
ذلك، فالمالكي يطلب من قواته الرد بالنار لو اقتربت منها قوات البشمركة!! عجيب، وكما قال أحد الكتاب: هل من المعقول أن رئيسا لمجلس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة كان يجهل وجود دوريات ووحدات كردية ومركزية مشتركة في تلك المناطق؟!
المالكي هو حاكم العراق ورئيس الحكم المركزي والأخ مسعود البرزاني هو رئيس إقليم من العراق. وما يجري في هذا الإقليم لا يخلو من سلبيات وشوائب ومآخذ، منها ما يخص بعض مظاهر الفساد، أو استفحال العشائرية، أو غطرسة الإسلاميين واضطهاد غير المسلمين في بعض المناطق. كما أن وضع المرأة الكردستانية قد تدهور بسبب تدخلات رؤساء العشائر والإسلاميين. الإقليم من مصلحته الاستماع للنقد وإصلاح الخطأ وسد الثغرات. وإذ يقال هذا، فإن الإقليم خطا خلال سنوات الفيدرالية خطوات كبرى في العمران ورفع مستوي معيشة الناس وهو ما عجزت عن إنجاز ذرة منه حكومات المركز الاتحادي المتعاقبة، ولاسيما خلال سنوات ولايتي المالكي، الطامح لولاية ثالثة تحت شعار quot; منو ينطيهاquot;[ quot;من يسلمهاquot;- قاصدا السلطة]. وحين تجري محاولات لنفي الطائفية عن حزب الدعوة الحاكم وزعيمه، فكيف نفسر وصف المالكي بquot; رئيس الشيعةquot;، كما وصفه سامي العسكري؟! وكيف نفسر المناداة بشعار quot;حاكمية الشيعةquot;؟! وكيف نفسر تحويل دوائر الدولة والجامعات إلى حسينيات لطم ومناحة، مع أن هذه المؤسسات هي لجميع العراقيين على اختلاف الدين والمذهب والعرق؟! وهذا ما قاله بقوة معتمد السيستاني للتو في نقده الحازم لممارسة طقوس عاشوراء في الجامعات ودوائر الدولة وحتى بين قوات الشرطة والجيش، في متاجرة سياسية بعواطف الجمهور الشيعي.
إن العراق اليوم بحاجة ملحة للأمن والخدمات، وملاحقة الفساد، وحل المشاكل الساخنة بهدوء مع إقليم كردستان؛ وإذا كانت الفيدرالية تطبق بصيغ غير معهودة، فالعيب في الدستور نفسه الذي يناقض بعضه بعضا، والذي يمنح سلطات واسعة جدا حتى لمجالس المحافظات، وهناك أيضا الاتفاقيات الرسمية والمعتمدة والتي لا يمكن التملص منها في لحظات غضب وتحرش وتحريض.
إن لشعب الكردستاني عانى ما عانى، وتعرض، خلال عهود وعهود، للقهر العنصري والمذابح المتتالية، وإن كانت قياداته لم تخل من اقتراف أخطاء، والفيدرالية كانت في التسعينيات خيمة أمان وسلامة للمعارضين، ومنهم السيد المالكي نفسه.
إن استمرار حكومة المالكي بالتحرش وتعمد غلق منافذ التفاهم سياسة خطرة. ويخطئ من يتوهمون بأن الصدام المسلح يمكن أن يحل مشاكل العراق، أو يغطي على عقود الفساد وآخرها عقد موسكو، أو على الفشل في معالجة مشاكل الأمن والخدمات، وعلى فضائح العدوان المشين على كرامات السجينات، وعلى معاناة ملايين الأرمل واليتامى، وعلى العدوان على الثقافة والفنون، أو على مراعاة حسابات ومصالح نظام الفقيه والصمت عن تدخله في شؤون العراق ونهب مياهه وبتروله، أو على انحياز الحكومة العراقية لجزار دمشق.
أخيرا، فلنأمل، وفيما يخص التوتر بين الحكومة الاتحادية والإقليم، بأن يسود العقل والحكمة والاعتبار بالتجارب الدموية القاسية.