شكرا لعبد الجبار العتابي الذي ينبئنا ونحن خارج الوطن عن الأحياء في وطن الأموات، أنبأنا عن الشاعر زهير أحمد القيسي الذي ينام تعباً على سرير تعب في مستشفى أكثر تعبا. وكلنا راحلون في النهاية أحياءً أو أمواتا مثل أنكيدو والمسيح ومحمد وعلي وعمر والحسين وأهل الحسين وأبناء الحسين وأصحاب الحسين! وكل على طريقته يرحل بإختياره أو يرحل مرغماً، يرحل برغبة الأرض أو برغبة السماء.
وفي النهاية quot;كل من عليها فانquot; والقيامة ليست واحدة، حيث مرت على الدنيا قيامات في الزمن الفلكي والسنوات الضوئية. وستمر قيامات أخرى وأخرى في العالم وفي العراق وطن القيامات العجيبة!
يشعر الإنسان وهو يودع أهله لسنوات أنه لو عاد يوما فسوف يرى الأطفال الذين ودعهم لا يزالون أطفالا. والكتاب الذين ودعهم سيراهم في شبابهم الغض يرشفون القهوة في المقهى البرازيلية. وأن شارع الرشيد يعج بالماشين نحو سينما الرشيد ومجمع الصالات في نهاية الشارع يضحكون على ما يسخر منه شابلن في الأزمنة الحديثة ويهيمون مع مشرب الشاي تحت ضوء القمر.
ظننت أن الحياة تتوقف في لحظة الوداع مثل فراقها الأبدي، حيث يبقى كل شيء في مكانه وكما هو من وجهة نظر الميت. ظننت بأن العراق باق في لحظة الوداع والسفر نحو المدن الباردة. فماء دجلة يسري حالماً وجبار يقدم الشواء للكتاب في الشارع النؤاسي وأمهاتنا لا يزلن واقفات يتلين الإستئذان بالدخول لمرقد الإمام الحسين quot; أأدخل يا بن بنت رسول الله، أأدخل يا بن فاطمة الزهراء أأدخل يا سيد الأولين والآخرينquot; ورجال الأمن يترصدون ما يكتبه الشاعر والكاتب زهير أحمد ألقيسي. حتى وهو يرقد الآن في مستشفى وحده دون أنيس من الأدباء، ولا أحد!
شاهدت صورة زهير أحمد القيسي مثل لوحة لأنكيدو تعبا بعد أن عارك وحش الغابة مع كلكامش. فخاب ظني أن لحظة الوداع في السفر لا تشبه لحظة الفراق الأبدية، وأن الدنيا تمشي، والناس يمشون، يدرون أو لا يدرون، يخرجون من الدفء ويعودون إلى البرودة، يخرجون من رحم الأم الدافئ ويعودون إلى رحم الأرض البارد.
لكن السؤال لا يكمن هنا أيها العتابي الذي يحدثنا عن أصدقائنا الذين يرحلون، يحدثنا عن الأحياء في وطن الأموات.
السؤال، من يقف وراء المصيبة التي حلت بالوطن العراقي أيها الكاتب الذي يعطينا إشارات الإنتباه وأضوية الحقائق فيبلغنا عبر مدونة إيلاف عن غياب النجوم من سماء الوطن ليلا!؟
أنا أعرف من يقف وراء المصيبة، وهو ليس ملفا سريا للفساد أبرزه عندما تقتضي الضرورة، فملف المصيبة العراقية مقروء من عنوانه وما تستهدفه الديباجة المكتوبة لا يحتاج قراءة ما بين سطورها، فسطورها واضحة كالشمس!
تسأل في رسالتك الضوئية أيها العتابي عن غرفة المستشفى الخاوية سوى من الشاعر quot;زهير أحمد القيسيquot; الذي لا أحد يعرفه، لا المضمدون ولا تجار الوطن من الساسة القابعين تحت قبة البرلمان أو خارج قبته، لا الكتاب ولا المدونون، والناس مشغولة بفيضانات الشوارع والحارات المطفأة الضوء والحانات الموصدة الأبواب ونجوم التلفاز الخاوي والدعارة السرية والعلنية والفضائح بالجناجل والذبح في المناجل والشيعة في المقاتل والسنة المشغولة في القيل والقائل، والتوابيت الراحلة مبكرة نحو وادي السلام كي يعلو شأن الجامع والمقام، وثمة من يفرز مفاتيح المصارف عن بعضها كي يفتح الأبواب الموصدة، المفتاح المناسب للمصرف المناسب كي يغسل الأموال ويرحلها نحو مصارف الجوار وتسمع العراك في القنوات الفضائية وكل يعلن عن ملفات لديه سيفتحها لو مسه الشك. لكن غسيل الأموال مثل غسيل الأموات لا ينظف الفاسدين أو المفسدين.
فمن ترى وسط هذا الزحام وهذا العراق من هو قادر للوصول في الموعد لزيارة أنكيدو في غرفة القصر السومري الذي تعلوه لوحة الحسين بدلا من لوحة لأبي علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا عالم الطب!
أبدلنا صورة الحسين بالحسين فضاع الحسينان بين الجامع والمشفى! ولم نعرف مكان ومكانة كل واحد منهما. لم نعرف مكانة العلم في الدين ولم نعرف مكانة الدين في العلم. فأبدلنا صورة الحسين بالحسين والمستشفى بالجامع! لم نعرف مكانة الحسين بن عبد الله في الشهادة من مكانة الحسين بن سينا في العلم فأبدلنا المكان بالمكان والمكان بالمكان. لم نعرف الحسين الجميل في مكانه بين النواويس وكربلاء ولم نعرف الحسين بن سينا في مكانه في بخارى، فأبدلنا العلم بالدين ولم نعرف الدين في العلم.
ترى من يقف وراء هذه المصيبة!؟
من الذي رسم الدرب هذا، للوطن هذا! ومن كتب ديباجة المصيبة وعلقها على مسلة حمورابي ليححب القانون فيبدل الشرائع بالشريعة، ومن غطى بها جنائن بابل المعلقة!؟ من أتى وسيأتي بالرعونة الماضية والجاثمة والآتية نحو وطن يسير الناس فيه أمواتاً ويضيع فيه الشاعر من غير زائر يقول له وداعا أو يقول له إلى اللقاء!
من يودع الشعراء والمبدعين!
لم يعد الناس يمشون في وداع الأحبة، الوداع الأزلي لمن أحب وطنه وعشق أهله. بل صار الناس يمشون في وداع الضمير الذي مات منذ عقود في وطن كان مشروعا لوطن.
فمن يا ترى يسلك الطريق الذي تخبصه أبواق السيارات، من ترى يفسح المجال للزائرين وصولا نحو غرفة الشفاء التي لا تشفي وغرفة التضميد التي لا تضمد وحبة الدواء المصنوعة من الطباشير في مصانع الأدوية التي تصدرها مصانع أهل البرلمانات من الشام كي ترتفع الأبراج في دبي وعمان على حساب صحة المواطن، حتى يبقى زهير أحمد القيسي نعسانا ينتظر من يمد كفه على جبينه كي يمنحه لمسة من الدفء الحنون، ولا أحد!
كتابه الذي ترجمه عن الأهوار سبر فيه غور التاريخ ومشى بمشحوفه بين غابات البردي والكعيبة وسط سيمفونية الحياة بين أنغام الطيور المهاجرة التي هجرت والسومريون الذين هجروا من الأهوار ولم تبق سوى الضفادع ولم يبق سوى نقيقها بين قصب الأهوار والبردي الساكت. رحلت الطيور ورحلت الأسماك التي لا تنجب سوى في الأهوار تودع أبنائها في المياه الصافية وتعود إلى ملوحة البحر، تتركها أمانة في أعناق العراقيين دون أن تدري أنهم هجروا وهجروا ومشوا بعيداً نحو المدن الباردة ومن بقي منهم في الوطن أسمه quot;زهير أحمد القيسيquot; بقي حياً في وطن الأموات!
- آخر تحديث :
التعليقات