كم ربيعٍ محنّطٍ مرّ بأعطاف بلادي، فما رمشَ برعمٌ بجفنه أو ابتسم! أيّ كثبانٍ من الألم والرعب والخوف انهالت على وطني، فسدّتْ مسامَ الروح والتوق والأمل، وأغرقتنا برائحة الدم وعطن السجون المظلمة! كيف أمكن للاستبداد أن يبقينا واقفين على أقدامنا في قفص الاتهام عقوداً طويلة؟! وكيف صدّقنا أنّ الأشجار المقطوعة لايرتعشُ لها جذرٌ، و أنّ الأرض المحروقة لاينبت فيها زهرٌ أو صبّار؟!
هاهو بلدي الصابرُ أكثر من أيوب ينوء طرفه السفليّ بما حملَ، فتنفجرُ عروقه جارفة مع نزيف الدم قيحَ الذلِّ وصدأ الاستكانة. وهاهما جمرُ الأرض وفحمُها يطلعان من تحت أربعين عذاباً ليشمّا رائحة الحياة. كان يمكنُ للشرايين أن تهدأ لو قوبلت طقوسُ تمرّدها بالاحترام، لكنّ دورة دماء جديدة آن أن تبدأ، وآن للنار أن تضيء الجسد. كلما فكرت في عنفوان الشريان الذي ضخَّ الشوارعَ بالفتية والأغاني انحنيت لاسم درعا. وكلما رأيت حمصَ تفورُ بالدم والضحكات تمنيت لو أخبئها زجاجة عطر وزيتَ قنديل وتميمة.
أما حماة الطالعة من سياج الغياب، فقد أوقفتني على حافة النحيب والجزع. ناولتني سلة ورد وأسئلة، وملأت راحتي بحفنة من دموعٍ وشظايا فِكَرٍ وحقائق. أين كنا وهي تذبحُ من الوريد إلى الوريد؟! تحت أيّ جلد من جلود الخوف والأنانية اختبأنا، وعلى أي وسادة أفرغنا رؤوسنا واسترحنا؟! يالعارنا... حين تقنّعنا بالجهل وصمَتنا! حماة أجمل منّا! حماة أطهر من أحلامنا. فقد قتلتْ وحيدة، ودُفنت وحيدة، وبكت خلف النوافذ الكئيبة ثلاثين عاماً وحيدة... لكنها حين سمعت استغاثاتِ المدن الجريحة قامت من تحت الرماد لتلبي النداء. غادرت شرنقتها. فردت جناحيها فوق ساحة العاصي، وصدحت ناياتُ حناجرها بآهات الوطن.
حكاياتُ من نهضوا من ركام الموت فيها أقسى من كلّ ماسمعنا ورأينا أو تخيلنا، وشهاداتهم عن الخراب ستظل لعنة تحيق بإنسانيتنا. يبكي الرجالُ وهم يروون ماحدث لهم منذ ثلاثين عاماً، فإذا بدموعهم تصفعُ أكاذيبنا عن الأمن الذي ظللنا. أيّ عماء وصمم غلّفا قلوبنا، وأيّ أمل ظلّ يغذيهم، فلقنوا أطفالهم أسماءَ آلاف الشهداء وتفاصيلَ المجازر في كل حيّ وركنٍ ليحفظوها شفاهة؟! كأنما كنا ميتين وهم الأحياء. كثيرون منهم عاشوا بالحقد، لكنّ آخرين عاشوا بالأمل. قالوا إنّ صناعة الحياة الحرة لأبنائهم هي ماتشغلهم وليس الثأر. صفعة أخرى ترجُّ ادعاءاتنا الزائفة عن البطولة والسموّ، إذ تبدو معاناتنا رفاهية مقارنة بهم، ومبرراتُ حقدنا ورفضنا أوهى مما خلّفوا وراءهم. هؤلاء الذين صعدوا إلى ذرا ألم خرافية هل عثروا هناك على إكسير الحياة؟! أم يكمنُ السرُّ في مياه العاصي وحركةِ النواعير الدائبة؟!