لا أتحدث هنا عن أم عامر التي تأكل عشاء أولادها فتلطخ أصابعهم ببقايا الطعام لكي توهمهم بأنهم هم من أكل الطعام وليس أحد آخر. هذه حكاية من التراث الشعبي العراقي عن أم عامر ويضرب بها المثل لمن يأكل حقوق الناس من الأهل والأقرباء. أنا هنا أتحدث عن أم عامر التي تظهر في مقطع فيديو قصير طوله دقيقة ونصف في موقع اليوتوب. هي ليست ممثلة مشهورة ولامطربة من النوع الرخيص ولاحتى عارضة أزياء لتحوز على عدد يتجاوز المئات من الآلاف من المشاهدين. أم عامر أمرأة من جنوب العراق، من البصرة تحديدا ً، تختزل قصة العراق بدقيقة ونصف، وبطريقة بسيطة ومؤثرة لاتدعك إلا أن تضحك وتبكي في وقت واحد. تضحك على الطريقة التي تسخر بها أم عامر من المسؤولين ومن الوضع في العراق عموما ً باللهجة الجنوبية العفوية الجميلة والمعبرة جدا ً، لكنك في نفس الوقت تبكي على ماتحمل هذه المرأة من هموم تبثها عبر شاشة التلفاز تختصر بها العراق بأكمله. فهي تعكس المفارقات والتناقضات التي تحدث في العراق بأسلوب عفوي جميل.

تتحدث أم عامر عن المسؤولين الذين يركبون على أكتاف الفقراء والذين يصبحون من الأغنياء على حسابنا (يصيرون أوكي بروسنا، حسب تعبيرها)، ومن ثم تتحدث عن إنقطاع الكهرباء والبيئة الفاسدة وعن أمكانات الدولة الهائلة التي لم تستطع بكل جيوشها أن توقف هجوم البق على البشر في جنوب العراق. ثم تتحدث عن الماء الوسخ والفاسد الذي يملأ بطون أهل البصرة التي يلتقي بها دجلة والفرات والتي عانت الويلات في زمن النظام السابق ومازالت، والتي لم تترطب شفاه أبنائها بطعم الماء العذب إلى الآن. ثم تنقتل أم عامر البصراوية لتصف سطوة المليشيات التي تريد أن تقتل كل شيئ جميل بأسم الدين والتي تمنع الأفراح وتحارب أي عمل فني لتقتل كل الأذواق مقابل سيادة ذوق واحد تريد أن تعممه على الكل. لم تستلم أم عامر راتب زوجها المتقاعد منذ سنة كاملة ولم تدخر وسعا ً ببيع كل ماتملك من أجل لقمة العيش حتى إنها لم تستطع شراء الفاكهة من هذا الراتب البخس. تكمل أم عامر عن وضحعها الصحي المتردي والركض وزيارتها للإطباء في غياب الدعم الحكومي لهذا القطاع فيتجه المواطن للعلاج على نفقته الخاصة الذي يكلفه الشيئ الكثير. أن أجمل ماتختم به أم عامر مقولتها هو (أشعة بمية وخمسين ألف، وين صايرة هاي بيا وطن)، أي أشعة بمئة وخمسين ألف دينار! بأي وطن يحدث هذا!

إنها فعلا ً كوميديا سوداء تعبر بها أم عامر عن وضع العراق سابقا ً ومازال في وقت يلتهي به سياسيوه بالصراع على المناصب والتسقيط السياسي والزعل السياسي أيضا ً، هل سمع أحدكم بالزعل السياسي؟ أنه لايحدث إلا في العراق إذ يزعل السياسيون من بعضهم البعض كما تزعل العمة غلى الكنة فيغادر الكثير منهم البرلمان وهو زعلان على الطريقة العشائرية. الحق يقال، لايوجد بلد في العالم لايوجد فيه صراع سياسي، لكن في العراق الأمر يختلف كثيرا ً، فعندما يحدث في العراق صراع سياسي يتوقف كل شيئ إبتداء ً من تعطيل الخدمات وتعطيل قوانين وتعطيل للحياة وليس إنتهاء ً بزعزعة الأمن من خلال التفجيرات التي تحدث كل يوم. إنها لعبة كسر العظم وعض الأصابع بين السياسيين الذين ينتظر أحدهم الآخر أن يرفع الراية البيضاء لتخلو الساحة له ولأصحابه.

الحكومة العراقية مقصرة في كل شيئ تجاه المواطن إلا دعم الزيارات الدينية فهي على أهب الإستعداد لتقديم الدعم اللازم. ولا أظنها بذلك تريد خيرا ً غير أكل طعام من يمشون إلى الإمام الحسين كما فعلت أم عامر عندما أكلت طعام أبنائها الصغار ولطخت أصابعهم ببقاياه لتوهمهم بأنهم فعلا ً قد أكلوا طعامهم، فحقوق أبناء هذا الوطن هي في بطون المسؤولين والفاسدين والسارقين والمقصرين في وقت يلتهي بهي أبناء هذا الشعب في زيارات المراقد المقدسة. وماهي إلا ولية مال غمان كما وصفتها أم عامر قبل سنين، والمهزلة مازالت مستمرة مع الأسف.

أم عامر على اليويتوب
http://www.youtube.com/watch?v=dzh67pD_zDA


[email protected]