مازال المواطن العربي يدفع ثمن أحلامه وتطلعاته من جسده في ظل السلطات الجديدة التي حلت محل الانظمة المطاح بها في خضم الربيع العربي في بلدان عديدة. في مصر مازال النشطاء والكتاب والصحفيين يتعرضون للتوقيف والحبس ومواجهة شبح المحاكمات العسكرية وانتهاك حقوقهم في نواحي عديدة.

في ليبيا توقفت منظمة اطباء بلا حدود عن العمل جزئيا احتجاجا على التعذيب الذي يتعرض له السجناء بشكل مستمر وبعد أن كتبت خطابات بهذا المعني للسلطات الليبية بمختلف مستوياتها دون جدوى.

ظن الناس ndash; على غير حق ndash; بأن الثورات التي حدثت ستعمل على تغيير آليات السلطة وأدواتها وكيفية استخدام هذه الادوات في إدارة الدولة وصيانة الجسم الاجتماعي بكل ما يتطلب ذلك، دون تجاوز للحقوق الاساسية ودون الاعتداء على حصانة الجسد بالحبس والحرمان من الرعاية الصحية والتعذيب الى آخر ما تبتدعه الالة السياسية لالحاق الأذى بالفرد لاخماد نزعة المقاومة والتمرد على الوضع القائم فيه.

ظل العالم العربي وخلافا لاستراتيجيات السلطة في التعامل مع الفرد يركز على التعذيب الجسدي للنيل من الخصوم السياسيين واخضاعهم - أو افنائهم ndash; وكذلك مع المتهمين في جرائم تحت طائلة القانون الجنائي لانتزاع الاعترافات منهم. وهي ممارسة قد صارت في حكم التاريخ منذ قرن مضى. فالولايات المتحدة الامريكية مثلها مثل بلدان اخرى كثيرة تمارس التعذيب مثلا في منطقة ( رمادية) فيما يخص سجناء غوانتانامو من المتهمين بالارهاب، وهي وصمة عار بالطبع في تاريخ هذا البلد سوف لن تنمحي. ولكن التعذيب الممارس هناك يتخذ الطابع النفسي اكثر من البدني. لايخفف ذلك من وطأة الفعل وفداحته ولكنه يكشف عن الوقوف على درجة اخرى من سلم التاريخ والممارسة الانسانية في حقل السلطة والقوة فيما يتعلق بقداسة جسد الانسان وحصانته المنصوص عليها في جميع دساتير البلدان التي تحترم الحريات والانسان.

فمنذ قرن من الزمان أو يزيد ركزت السلطة اهتمامها بروح الانسان وجعلته هدفا لها بعمليات المراقبة والاصلاح واعادة التربية تاركة جسده على حاله، وذلك بعد أن دخل الفرد كمكون اساسي في عملية الاقتصاد والانتاج واصبحت عودته لحظيرة المجتمع أمرا مرغوبا فيه بدلا عن التخلص منه. ولكن الانظمة القمعية في العالم العربي ما زالت تصر على استهداف الجسد وتحطيمه والتمثيل به وافناء الكائن الاجتماعي الفرد بدلا من المحافظة عليه وضمه لكتلة منظومة الانتاج والاقتصاد، ربما بسبب تدفق النفط الذي لا يحتاج كثير عمالة وربما بسبب الانفجار السكاني وانتشار العطالة بحيث يصبح الافراد ذواتا يسهل الاستغناء عنها باخضاعها لاحط النزعات البشرية المتمثلة في احداث الاذى والمثلة بالجسد وتجريب كل ما يخطر على بال في هذا المجال.

الظن الواهم بأن تغير الانظمة الشمولية القمعية في البلدان التي حدثت فيها ثورات سيؤدي وبشكل تلقائي لتغير في زاوية الاقتراب من الانسان الفرد في هذه البلدان وفي نظرة السلطة إليه قد جعل الكثيرين يصابون بخيبة أمل خاصة داخل هذه البلدان نفسها بحيث نرى استمرارا لحالة التململ والجاهزية لثورة اخرى تعيد الاعتبار للجموع وللافراد بتقديس قيم العدالة و الحرية والانسانية وعلى رأسها قداسة جسد الفرد وحصانته ضد أي انتهاك مهما خفت درجته.

مرد هذا الاحباط يكمن في طبيعة السلطة وآليات عملها. ليست السلطة موضوعا يتم الصراع حوله ولكن الذوات والمجتمع كله يخضع لنسيج هذه السلطة الذي يتخلل كافة طباقة البنية الاجتماعية وأجهزتها وصولا للاسرة والفرد. بحيث يصبح تغير النظرة للفرد وحقوقه عملية طويلة معقدة تحدث ضمن عملية تغيير شاملة في التشريع والتربية والتعليم ونظام القيم والاخلاق والنظرة للحياة بشكل عام.

لا تحدث هذه العملية بين عشية وضحاها، كما أن الافراد والمجموعات الاجتماعية وجيش المختصين والمسئولين الذي يشاركون في هذه المسألة ليسوا ابرياء من مفعولات السلطة القديمة وتأثيراتها عليهم وعلى مواقعهم الاجتماعية الحالية التي وصلوا اليها ضمن نسيج سلطة قديمة بكل مواضعاتها. ليس بوسع أحد الانسلاخ من نسق قديم وادعاء الانضمام لنسق جديد وبقواعد جديدة للعب لأن المجتمع جسم واحد يؤثر بعضه في البعض الاخر بشكل متبادل وضمن بنى للسطلة غير مرئية.

ما تعرض له القذافي قبيل موته وما يتعرض له السجناء الحاليين المتهمين أو المتورطين فعلا بمناصرة نظام القذافي حتى الرمق الاخير يخرج من دائرة التشفي والانتقام الى محاولة ارساء نظام جديد وسلطة جديدة وحمايتها بكل السبل والادوات. وما التعذيب ( الذي مارسه نظام القذافي بالقطع) سوى أكثر الادوات قربا لمحيط مجتمع عانى منه وبالتالي قد شكل جزءا من منظومته، دون النظر لمشروعيته من عدمها.

كما أن المؤسسة العسكرية والامنية في مصر التي تحاول فرض النظام وصيانة الامن في هذه الظروف لا تتعب كثيرا في البحث عن وسيلة لاسكات من يثيرون الاسئلة الصعبة وربما ( القلاقل) في نظرها غير الاعتقال والحبس دون توجيه تهمة. تفعل السلطات ذلك كما يبدو دون خوف من ردة فعل الشارع المصري الذي ربما ألف خلال عقود طوال اختفاء المعارضين في الاقبية وخلف القضبان ضمن ثقافة السلطة القديمة التي ستظل ممارساتها تكرر ردحا من الزمان قبل أن تجد السلطة الجديدة وسائل اخرى للمراقبة والضبط خارج حزمة ادوات الاكراه المتوفرة حاليا والمتعارضة مع كل التشريعات المتعلقة بحقوق الانسان.