كنا شأننا شأن جميع الشعوب نأمل أن تبدأ مع الثورة مرحلة تطهر وتطور سياسي واجتماعي وثقافي وسلوكي، فلا نكتفي بخلع حاكم أو إسقاط نظامه، ولكن نبدأ بمراجعة للذات وتنقيب وحرث للتربة المصرية، بحثاً عن تلك العناصر التي سمحت لكافة صنوف الفساد أن تنمو وتترعرع في أرضنا على مدى ستة عقود على الأقل، إن لم يكن على مدى قرون يصعب حصرها.
لم نتصور بالطبع أن تحدث عملية التطهير المرتجى فجأة وبنفس السرعة والزخم الذي اندلعت به الثورة، فالتغيير العميق في حياة الشعوب يخضع للسنن خاصته، رغم أن الثورات تكون نقطة بداية قوية لانطلاق قوى التغيير، مصحوبة باستعداد لدى الجماهير المؤيدة والمساندة للثورة لإعادة حساباتها، وبالقابلية للتخلي عن بعض مما اعتادت عليه كجزء عضوي من حياتها، بل وعن جزء ولو قليل مما اعتبرته في السابق من قبيل البديهيات والمسلمات، وربما أيضاً من المقدسات.
الأمر في مصر الآن ليس أمر استعجال لثمار الثورة على المستوى الشعبي، سواء السلوكي أو الثقافي والقيمي، لكن ما يقلق أو حتى يثير الجزع هو أن نشهد لحظة البداية، والمفترض أن تكون مفعمة بالحماس والتطهر، فنجدها على العكس تماماً، لحظة رواج لشتى أنواع الفساد، فنجد الشعب وصفوته الذي يصرخون ليل نهار مطالبين بمحاكمة مبارك ونظامه على فسادهم السياسي، وليس فقط على جرائم قتل متظاهرين وفساد جنائي أو مالي، نجدهم ضالعين في إنتاج وصناعة فساد سياسي أشد هولاً من ذاك الذي ساد. . نجد المتاجرة والنفاق للمجلس العسكري، ونجد الصفقات المحلية والعالمية المريبة للجماعة صاحبة الشعبية والأغلبية البرلمانية، فيتفاقم التزييف والخداع على جميع المستويات، بدءاً من القمة التي ترفدها القاعدة بفيض لا ينقطع من محترفي النفاق والتدليس.
نجد كافة وسائل الإعلام مقروءة ومسموعة ومرئية، وكأنها قد سقطت جميعها فجأة في بركة الفساد، نفاق ومتاجرة وأخبار كاذبة وتقارير مزيفة ومفبركة، مانشيتات تزعق بما يختلف جذرياً عما يحمله متن الخبر، وتحريف لأحاديث يدلي بها البعض، غير البعض الي يتبرأ مما أدلى به بالفعل من أقوال، ومتاجرة من وسائل الإعلام برموز التحريض على الكراهية، تسولاً للقراءة أو المشاهدة، ومعها تدفق الإعلانات على القنوات الفضائية والجرائد الناعقة بكل ما هو غريب وشاذ، هذا ما تفعله النخبة، فماذا نقول عمن نسميهم عامة يفتقدون الوعي والأهلية؟!!
هل نحن بسبيلنا لفترة انكفاء وتدهور، أم فترة استعادة وعي ثوري تؤتي ثمارها ببطء ولكن بإصرار وثبات؟. . ذلك هو السؤال!!
مسكين وبائس هو الشعب الذي يقوم بثورة، ليستبدل أولياء أمر فاسدين بمن هم أشد منهم فساداً. . ربما كان الشعب الفاسد لا يستطيع أن يفرز غير الفساد حتى لو كان يضيق به، فهل هذه هي حقيقتنا، أم هي فترة فقد اتزان مؤقت، تعود لنا بعدها الروح أو الوعي؟!!
بمحض الصدفة تعرفت على كيفية تشكيل المجلس الاستشاري، عبر التعرف على أفكار أحدهم بمداخلة بقناة فضائية، فقد تم التشكيل على ما يبدو بطريقة أقفاص الفاكهة، بضع ثمرات سليمة على الواجهة، وما تحتها كله معطوب وفاسد. . لقد استمعت إلى مداخلة عضو مغمور بهذا المجلس الذي تشكل ليعبر عن الثورة، وليكون واسطة بينها وبين المجلس العسكري، وذلك في برنامج لمذيع بقناة فضائية خاصة، استمات حتى اللحظة الأخيرة في التباكي على عصر مبارك وهو ينهار، ثم انقلب مدعياً الثورة، ليعود ثانية إلى حيث كان بوقاً لمن يصورون الثورة مؤامرة أمريكية صهيونية.
كان اسم صاحبنا الضيف مسبوقاً بلقب (د.) الشهير، وكان الرجل عجيباً في حماسة المنقطع النظير لقلب الحقائق الماثلة أمام العالم أجمع في قضية منظمات المجتمع المدني الأجنبية رأساً على عقب، إلى حد تأكيد فخره بما حدث وبالنتيجة النهائية التي وصلت إليها الأمور، وعدها انتصاراً لمن قال أنهم الشعب المصري!!. . بدا ثورياً راديكالياً مشتعل الحماسة والوطنية على الطريقة quot;المصطفى بكريةquot;، لكن بصورة أسوأ وأشد فجاجة في العرض إلى درجة الابتذال!!
السؤال هو من أتى بهذا الرجل المداهن المنافق بفجاجة إلى مجلس يفترض تعبيره عن الثورة؟!
أفهم أن يكون مثله موظفاً حكومياً يمارس النفاق بحكم منصبه، لكي نتعشم أن يتعلم فيما بعد أن واجبات المنصب الحكومي تقتضي الأمانة والإخلاص للشعب، وليس نفاق الحاكم ولحس أقدامه وهز الذيل في حضرته البهية. . المشكلة التي أراها هي فيمن أتى بهذه النوعية للمجلس الاستشاري، فمن فعل هذا يعيد إنتاج نظام مبارك، بالأصح يعيد إنتاج الفساد الإداري والسياسي بصورة أكثر فجاجة. . تلك هي الكارثة، أن نتشارك نحن كشعب ونخبة مع من سلمنا لهم الثورة لحمايتها وتحقيق أهدافها، في صناعة نظام وحالة تفوق في السوء والفساد ما ثرنا عليه!!
الآن أصبح quot;النفيquot; سيد الأخلاق، مواقف وتصريحات وتحركات يعقبها مباشرة quot;النفيquot;، بهذا تفعل ما تريد وتنجو من أي حساب، هذا هو الآن تكتيك رجال الله أصحاب الأغلبية الكاسحة بالبرلمان، وهو ذات التكتيك الذي تنسب براءة اختراعه إلى ابن البلد المصري، والذي كفل له أن يعلن للعالم وبكل فخرquot; quot;إحنا اللي دهنا الهوا دوكوquot;!!. . فهل هذه هي السياسة في عهد سيادة وتمكن العسكر وأصحاب الفضيلة؟!
أيضاً القنوات الفضائية القبطية تمارس بنجاح باهر رسالتها المقدسة بعملية محو عقول الأقباط وليس تغييبها. . هي مصممة على تحويلهم إلى قطيع من البلهاء، يزغرد ويصفق لطلعة البابا ونكاته المقدسة، التي لم تعد مستساغة حتى للكثيرين من المخدرين بهالة قداسته!!. . في هذا الوقت العصيب الذي تمر به مصر والأقباط، يتمادى الأنبا شنودة وأساقفته وقنواتهم الفضائية في تزييف وعي الأقباط ومسح كل ذرة عقلانية في جماجمهم، وتغييبهم في عوالم أسطورية مفارقة للواقع. . فساد قيادات الكنيسة الإداري والمالي (وغيره) إلى درجة الإجرام يتفشى بلا حياء ولا رادع، بدلاً من أن ينحسر تدريجياً تهيباً من روح جديدة كان يفترض شيوعها في سائر مجالات الحياة المصرية، فلم نشهد من الكنيسة ورأسها المقدس إخلاصاً وشجاعة في مواجهة الفساد كتلك التي أبداها حزب النور السلفي إزاء عضو اقترف الكذب والادعاء الباطل، فيما يتناقل الأقباط العديد من قصص فساد كنسي تشهيب لهولها الولدان، لكن لا حياة ولا اكتراث لمن تنادي من قبل رجال يدعون لأنفسهم قداسة لا تحق لبشر!!
صار الحديث باسم الثورة هو حرفة ألد أعدائها، وصار الدفاع عما يسمونه مصالح الشعب وجماهيره الكادحة هو الأغنية التي يرددها طوال الوقت المتاجرون بحاضر هذا الشعب ومستقبله، من أجل مكاسب شخصية تافهة ودنيئة. . صار التزييف والخداع هو سيد الموقف وسلاح الجميع، فنجد خبير في العواء وإثارة الفتنة الطائفية يزور الكنائس للتبشير برئاسته الميمونية للجمهورية، التي لابد وأن تصبح كتلة نار ودمار على يديه بفضل نوازعه الطائفية المسمومة، وآخر من بين مؤسسي الجماعات الجهادية يرفع الآن راية الاعتدال والحرية والمدنية، ويقدم نفسه كحلقة وصل بين العلمانيين والإسلام السياسي، نعم باب التوبة مفتوح للإنسان، على أن يلزم داره نادماً على ما فات، لا أن يتقدم لقيادة مصر، مستعيناً بمعسول الكلام، فنضطر لتذكر قول الشاعر: quot;بلغ الثعلب عني عن جدودي الصالحين * أنهم قالوا وخير القول قول العارفين * مخطئ من ظن يوماً أن للثعلب ديناًquot;!!
هكذا على ضوء ما تشهده مصر حالياً من ازدهار غير مسبوق للنفاق والمنافقين، يتقدم كذابو الزفة الصفوف، يتاجرون ويزايدون ويتبجحون في نذالة منقطعة النظير، وينسحب الرجل الشريف د. محمد البرادعي، لينأى بنفسه عن الساحة الموبوءة، وبدلاً من أن نبدأ في تنقية نفوسنا وقلوبنا وأفكارنا، نوغل الآن في التلوث والفساد، وكأنه صار غايتنا ومتعتنا ومطلبنا الأثير، وكأننا قد أغلقنا بالوعة فساد مبارك وأسرته وبطانته، لتنفتح علينا أو نفتح على أنفسنا آلاف البالوعات!!
في بيئة كهذه يتضاءل طموحنا فيما نأمله من تفاعلات مجتمعية تنقلنا من حال العبودية والتخلف الاجتماعي والسياسي والثقافي والاقتصادي إلى حال جد مختلف، ليتبقى الأمل معلقاً بزلزال ثوري جديد قد ينجح فيما فشل فيه زلزال 25 يناير 2011.
مصر- الإسكندرية
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات