لن تولد قوى جديدة بسقوط الانظمة الفاسدة والمستبدة. هذا النوع من الانظمة يصنع فضاء فارغا تشغله بالعادة قوى تجلس في الظلام، لا تتطور بل تتربص، وعيها ينشأ داخل فضاء مفرغ من اي جدل واع، الصراع داخل ذلك الفضاء تتبادل دور البطولة فيه الفساد والاستبداد من جهة والقوى المتربصة من جهة اخرى.
في العراق سقطت اولى الانظمة بفعل تدخل خارجي ساعد عليه انهيار ورفض داخلي، السقوط لم يكن كافيا لإنهاء وجوده، تفككت فقط سطوته وهيمنته على السلطة. الضد المواجه والحي والفاعل له هو المعارضة الاسلامية.
وجود اليسار والليبراليين والقوميين بقي شكليا في معادلة الواقع. ثلاثة خيارات شكلت الصراع الحقيقي في عراق ما بعد صدام؛ بقايا النظام الساعين لتقويض التجربة الجديدة واستعادة الحكم عبر تحالفها مع تنظيمات جهادية مسلحة، وعلمانيون منشقون على النظام السابق ويحملون جزء كبيرا من مضامينه، والاسلاميون المطروحون كبدلاء.
باقي الطيف العلماني دخل في اصطفافات مع هذا وذاك من اجل البقاء في الواجهة، او من اجل التصدي لطرف اكثر خطرا من اخر. حتى الشرائح المدنية في العراق انقسمت بحسب ولاءاتها ودفعت بفعل مخاوفها من الاخر ولم تصنع تيارها الخاص. لدرجة ان عددا كبيرا من قواعد الحزب الشيوعي انتخبت القوائم الاسلامية.
كنت اتوقع ان الوضع المصري يمكن ان يفرز ثنائيات اخرى افضل كثيرا من الحالة العراقية، لكن ما حصل مؤشر على ان الوضع العربي بشكل عام لابد ان يمر بصراع ممتد بين بقايا السابق ضد خصم تقليدي هو الاسلام السياسي.
تختلف مصر عن العراق في نواح كثيرة، سواء في شكل التغيير الذي حصل، او في طبيعة النظام ورصانة الدولة. مصر تبقى دولة بتقاليد ممتدة حتى محمد علي باشا، بينما العراق خضع دائما لمنهجية التصفير والبدء مجددا في كل عقدين او ثلاثة واحيانا في اقل من عقد. كما ان النظام في وادي النيل لم يعبر كل الخطوط الحمراء التي تجاوز عليها كلها النظام الحاكم في بلاد ما بين النهرين.
لكن هذا الاختلاف لا ينفي تشابها في اللحظة الراهنة فيما يتصل بخيارات مصر القائمة. في العراق بقي الصراع بين خياري القوى الدينية وروح النظام السابق. وهو ما ظهر بوضوح في الانتخابات المصرية ايضا، القوى الاخرى الحاضرة تجد نفسها بين خيارين احلاهما مر، اما دعم امتدادات النظام السابق بثوب جديد، او دعم الخيار الاخر المتمثل بهيمنة الاسلام السياسي. .
لغاية عشية الانتخابات كان امام المصريين اكثر من هذين الخيارين، لكن في نهاية هذه المرحلة المهمة وجدوا انفسهم امامهما فقط، وهي مواجهة تمثل امتداد المرحلة السابقة، اسلام سياسي في مواجهة النظام السابق او بقاياه المعروفة بـquot;الفلولquot;.
الا ان هناك مؤشرا في الانتخابات المصرية لم يكن حاضرا في الحالة العراقية وهي ان الاقتراع كشف عن خمس المصوتين على اقل تقدير ابتعدوا كثيرا عن هذين الخيارين، الخمس الذي انتخب حمدين صباحي يمكن ان يكون قاعدة انطلاق جديدة للعلمانية غير المحسوبة على النظام السابق. بينما في الحالة العراقية كان التيار العلماني quot;غير البعثيquot; غير مقنع لاسباب عدة اهمها الصراع الطائفي وغياب مطلق للطبقة الوسطى.
بعد الانتخابات المصرية تبدو المهمة الرئيسية للقوى السياسية المدنية المعارضة هي المحافظة على نسبة الخمس التي حازوا عليها من جهة، والعمل على الاغلبية الصامتة التي قاطعت الانتخابات.
الفشل في ذلك مرجح اكثر من النجاح لعوامل عدة من بينها التشتت، الخيارات الخاطئة، عدم التخطيط، عدم وجود مرجعية فكرية.
ثم ان من مصلحة طرفي الصراع الرئيسيين بقايا الانظمة وخصومهم الاسلاميين الاستمرار بهذا الصراع، كل منهما يتعكز على الاخر، الاسلاميون يعتاشون على التخويف من النظام الذي عارضوه طويلا. وبقايا النظم المنهارة تستمر بتخويف قواعدها الشعبية من الخصم الاسلامي القامع للحريات والمؤسس للفوضى. لهذا فان فمن مصلحة الطرفين ان يستمر الصراع التقليدي الممتد منذ اواسط الخمسينات بين النظم الجمهورية والمعارضات الاسلامية. هذا ما يجري في العراق وما يبدو ان مصر لن تخرج عنه على المدى القريب في اقل التقديرات.
في العراق تحالفت الاقلية الليبرالية واليسارية مع هذا او ذاك، فخسرت. في مصر الخيار صعب، والاختيار ايضا محفوف بالمخاطر، بين اسلاميين يتربصون بعقل الدولة والمجتمع، وبقايا نظام عودتها يعني فشلا مطلقا للثورة.