من مفكرة سفير عربي في اليابان

ينفي 85% من الشعب الياباني اعتقاده بالأديان، ولكن هناك تعبير ياباني يعبر عن حقيقة الدين في اليابان، وهي عبارة quot;شنبوتسو شوجوquot;، تعبير يدمج ديانة الشنتو بالديانة البوذية. ويرجع ذلك التعبير للقرن السابع عشر، بعد ان انتقلت اليابان لعصر الايدو، بتجنبها الصراعات الدموية الدينية والطائفية، وتوجهها لتوحيد البلاد بثقافة تعليمية متقدمة، وقد فصلت البوذية عن الشنتو رسميا بقانون في عام 1886. ويؤكد اليوم، علنا، 15% من اليابانيين بأنهم يعتقدون في بديانة الشنتو أو البوذية. ويؤكد الدستور الياباني على حرية اعتناق ألأديان، وهناك قلة من المسيحيين واليهود والمسلمين والهندوس، ولكن تبين الإحصائيات اليابانية بأن 90% من الشعب الياباني مرتبط quot;نفسياquot; بديانة الشنتو أو البوذية بالرغم من نفيهم بالايمان بالاديان.
وتعتبر ديانة الشنتو من أقدم الديانات في اليابان، بينما دخلت البوذية من الصين، ومن خلال كوريا، إلى اليابان في القرن السادس الميلادي، وقد علق البروفيسور هاورو ساكوراي، أستاذ العلوم الدينية بجامعة كوجاكان اليابانية، عن ديانة الشنتو قائلا، quot;الشنتو هو أحساس عاطفي لا تفكير مادي، يسمو بالإنسان ويدعم أخلاقياته ويهذب سلوكه. فهو نوع من الأيمان، والإيمان مرتبط بالشعور، والشعور مرتبط بالإحساس، ولو دخل التفكير الذهني في الوسط لتلف هذا الإحساس الايماني الجميل.quot; وباختصار يفصل الشعب الياباني الواقع المادي الحياتي ومنطقه التفكير الذهني، عن الدين والإحساس بالإيمان والسمو من خلاله. ففي ديانة الشنتو اليابانية يمكن أن تسمو بهذا الإحساس لمرتبة الإله ومن خلال خدمة الوطن. ومن المعروف في تاريخ اليابان إمبراطور عهد الميجي الذي لعب دورا في تحول اليابان الى بلد عصرية متطورة صناعيا، فأعتبر بعد مماته من أحد الإله تقديرا لجهوده، وبني له معبدا من أشهر وأجمل معابد اليابان، ويزوره سنويا الملايين من اليابانيين للتبرك والاحترام.
ومع أن ديانة الشنتو لا تحدد رسول لرسالتها وليس لها كتاب مقدس، لكنها مستمرة، عبر مئات السنين، الديانة الموحدة للشعب الياباني، ويرجع تاريخها المكتوب لعام إلفين وستمائة وسبعة وستين قبل الميلاد، كما كان قاطنو هذه الجزر يمارسوها قبل هذه الفترة بشكل بدائي. وقد أخذ الشعب الياباني من الحضارة الصينية والديانة البوذية الكثير وطور بها معتقداته، كما دمج الديانتين في الممارسة الدينية وعقائدها. فالشعب الياباني مرتبط بالشنتو في كل ما له علاقة بالحياة والنمو والتطور، ومرتبط بالبوذية في كل ما له علاقة بالموت وما بعد الحياة.
ويعتمد الشعب الياباني على كتابين أساسيين حينما يناقش تاريخ اليابان القديم وديانة الشنتو، وهما كتاب الكوجيكي والنهون شوكي. وقد عرضنا في الحلقة السابقة بعض بنود كتاب الكوجيكي، ولنحاول عزيزي القارئ تفحص كتاب النهون شوكي ونتدارسه لنتفهم الكثير عن تاريخ وديانة شعب اليابان. لقد جمع أجزاء هذا الكتاب بتشجيع من البلاط الإمبراطوري الياباني، وأعتمد على الوثائق المحفوظة في هذا البلاط. ويشرح الكتاب تاريخ اليابان وكيف بداءت الحياة فيها، ويوصف ولادة الجزر والآلهة والعائلة الإمبراطورية والشعب الياباني. وقد أكد المعلق على هذا الكتاب السيد كونن شيكي بأن كتاب النهون شوكي قد جمعه الأمير تونيري، والكاتب يوسومارو فوتو نو اسون، وقدم للإمبراطورة جيميو في عام سبعمائة وعشرين.
ويدرس هذا الكتاب تاريخ اليابان وديانة الشنتو منذ القدم وحتى عام ستمائة وسبعة وتسعين. ويعرض الكثير من المفاهيم من خلال أساطير يكررها الشعب الياباني ويستفيد من الحكمة من وراء حوادثها. ويغطي الكتاب بالأخص تاريخ فترة الاسوكا (552-645) وهي الفترة التي تعرضت اليابان للتأثر بالحضارة الصينية والديانة البوذية. وقد كانت هذه الفترة، فترة تطور الثقافة الأدبية والدينية، كما تطور الفن والإبداع. والملفت للنظر بأن هذا الكاتب يعرض الحوادث التاريخية بصيغ مختلفة حسب المراجع المستقاة منها، ويسمح للقارئ أن يقرر الصياغة القريبة من الواقع في ذهنه وبدون وصاية. وقد يكون ذلك أسلوب مهم لدي الشعب الياباني في التعامل مع التاريخ والدين، فلا توجد فكرة مفروضة على الشخص، بل تصورات يتعلمها ويشعر ويؤمن بها حسب شخصه وبدون قسر أو عنف، بل بتناغم جميل. فلذلك استطاعت ديانة الشنتو أن تدخل في ضمير الشعب الياباني وفي أخلاقيات سلوكه منذ نشأة اليابان. وحتى موضوع الموت والآخرة تتعامل معها ديانة الشنتو بسلاسة، فتخلد الروح بعد الموت، وتحوم حول البشر، وترتفع للسماء لتدور حول الغابات والأشجار والأنهار. وإذا عمل الشخص خيرا لمجتمعه، قد ترتفع روحه بعد الوفاة لدرجة الآلهة، ليصبح إلها تبنى له المعابد لتحوم روحه فيها. ومن التقاليد اليابانية أن يتواجد في البيت معبد صغير بحجم صندوق متوسط الحجم وبه مرآة معدنية لتعكس روح الميت، كما تزور الآلهة لهذه المعابد الصغيرة. ولا تناقش ديانة الشنتو مصير الخطاءين في حياتهم كثيرا، فلا توجد فيها نار للآخرة، كما لم يكتب إلا القليل المبهم عما سيحدث للمخطئ بعد الممات. فتركز ديانة الشنتو على التحدث عن نتيجة العمل الطيب في الدنيا، فمن يقوم بعمل طيب سيموت موتة هنيئة، وستحوم روحة بين جمال الطبيعة، وقد تنتقل لمخلوق حسب طيب العمل في الدنيا، كما تشجع الناس على عمل الخير بدون الخوض العميق في ما سيحدث حين يخطاءون.
وقد بوب هذا الكتاب في ستة عشر فصلا، ويتحدث الفصلان الأول والثاني عن بداية ولادة الآلهة، بينما تركز باقي الفصول على تاريخ أباطرة اليابان. ويبدءا الكتاب بالحديث عن اول إمبراطور ياباني وهو الإمبراطور جيمو فينو، ويستمر في الحديث حتى آخر الأباطرة وهي الإمبراطورة جيتو تينو، التي حكمت في عام أربعمائة وتسعة وتسعين ميلادي. ويصف الكتاب في الفصل الأول كتلة كونية هيولية، تشبه البيضة، وبحدود مبهمة، وتحتوي على مجموعة من النطف، فينسحب الجزء الشفاف والنقي بتأني ليتحول إلى السموات، بينما يتحول الجزء الثقيل والكثيف إلى كتلة الأرض، ولتبدأ الآلهة التشكل فيما بينهما، وليصف الكتاب بالتفصيل كيفية ولادة الآلهة الواحد تلو الآخر. ومن أهم هذه الآلهة هما الازناجي والازنامي، وقد أمرت الإلهة بزواجهما، لتبدءا ولادة جزر اليابان وأباطرتها وشعبها. وقد ولدت الإلهة ازنامي ابنتها إلهة الشمس، التي هي الإلهة التي استمرت ترعي اليابان على مدى العصور، بينما اختفى والديها بعد ولادتها. وهناك معبد جميل، بمدينة ايسيه وفي وسط الغابة، لإلهة الشمس، والتي لها تقدير كبير في اليابان، كما يختار الراهب المسئول عن هذا المعبد عادة من نساء العائلة الإمبراطورية.
ويبدأ الكتاب في الفصل الثالث الحديث عن أول أباطرة اليابان وهو الإمبراطور جيمو تنو (الإله المحارب)، وهو من أحفاد إلهة الشمس quot;أمترا سوquot;. فقد كان الابن الرابع للإله هيكو ناجيسا، ووالدته quot;تامايوريquot; إلهة البحر، وكان ذكيا منذ ولادته. وقد توج إمبراطورا في الخامسة عشر من عمره وتزوج من quot;اهيرا تسو هيمquot;. وحينما بلغ الخامسة والعشرون من عمره خطب يقول بان الآلهة قد وهبت الأسلاف ارض اليابان الخصبة للزراعة الرز، وبأن الإلهة قد أنزلت الأسلاف على ارض اليابان قبل 1,792,470 عام. كما سمح لكل مدينة لان يكون بها لورد، وبكل قرية رئيسا، وهما يقرران الحدود، ويدافعون عنها، ويتحملون مسئولية التعامل مع الأعداء. ويؤكد الكتاب على quot;وجود أرض خصبة في الجزء الشرقي من البلاد محاطة بالجبال، وبان هذه الأرض مناسبة لتنفيذ الأمر الالاهي، لكي يملئ مجد الكون ولا شك بأنها مركز الكون، وقد سافر نجي هايا هي إلى هناك ليحولها للعاصمة، وقد وافق الأمراء على ذلك،quot; وفي عام الواحد والخمسين بالتاريخ الياباني، أي عام 667 قبل الميلاد، ليؤكد الكتاب ببدء العهد الإمبراطوري في اليابان في نفس عام 667 قبل الميلاد. كما يصور الكاتب المعارك الذي خاضها الأمبراطور، وكيف قتل أخوه في أحدى هذه المعارك، وقد توفى الإمبراطور وعمره مائة وسبعة وعشرين عاما في قصر كاشيها بارا في اليوم الثالث من الشهر الأول عام السادسة والستون، بعد ما عين الأمير quot;كامي نوناجاها ميميquot; خلفا له، ويوافق ذلك التاريخ عام 585 قبل الميلاد، ودفن في خريف السنة اللاحقة في اليوم الثاني عشر من الشهر التاسع في رابية ميساساجي في الجنوب الشرقي من جبل اونيبي. وتلاحظ عزيزي القارئ بأن هناك أخطاء بارزة في حساب التواريخ في الكثير من بنود الكتاب. ولنتذكر بأن الكتابة اليابانية لم تتطور إلا في القرن الخامس، وأخذت الكثير من الكتابة الصينية.
ويستمر الكتاب في عرض تاريخ اليابان وأباطرتها، وينتهي الكتاب بالفصل الثلاثين بعرض تاريخ الإمبراطورة جيتو تينو، التي قد كانت محافظة السلوك ومتحررة الفكر، وتزوجت من الإمبراطور امي نو نانهارا، ورزقت بالأمير كوساكابي، وحكمت البلاد، كما اكتشفت خيانة الأمير اهوتسو فتم اعتقاله وحكم عليه بالموت، وقد رغبت زوجة ألأمير أن ترافق زوجها في موته، وقد quot;وقع جميع من حضر على هذه الرغبة، وبعدها بكى الجميع.quot; ويتحدث الكتاب بالتواريخ الدقيقة عن تفاصيل هذه ألأمبراطورة وحياتها، ويعطي فكرة جميلة عن واقع القصور الإمبراطورية. فمثلا في اليوم الأول من الشهر الثاني عشر صدر قرارا إمبراطوري بأن يقنع الرهبان سنويا عشرة من الأشخاص لاعتناق الديانة البوذية، وفي اليوم الثامن من الشهر الخامس أرسل وفد لمختلف المعابد للصلاة لنزول المطر، في اليوم الثاني من الشهر السادس عفت الإمبراطورة عن بعض المجرمين، وفي اليوم السادس صدر أمر إمبراطوري بقراءة السوترا البوذية في معابد المحافظات، وفي اليوم التاسع عشر وزعت العطايا لآلهة الأرض والسموات، وفي اليوم السادس والعشرين بداء الوزراء ببناء مجسم لبوذا للدعاء لشفاء الإمبراطورة، وفي اليوم الأول من الشهر الثامن تنازلت الإمبراطورة عن العرش للأمير الإمبراطوري.
تلاحظ عزيزي القارئ بأنه في عام 667 قبل الميلاد كانت هناك إمبراطورية متطورة في اليابان، وقد شرح كتاب النهون شوكي تفاصيل تلك الفترة. وحينما قابلت بعض الرهبان اليابانيين تحدثوا عن جميع قصص الآلهة وكأنها أساطير، ولكن كان الشعب الياباني يعتقد في هذه الأساطير وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية. فبعد هذه الحرب تعرض الشعب الياباني لصدمة عنيفة وشكك في تاريخه وتقاليده ودينه، ولكن مع الوقت درس تاريخه ودينه دراسة متفحصة. ومع أن الكثير من اليابانيين يؤكدون بأنهم غير متدينين، ولكن تلاحظ بأن الجميع يحترم تاريخه وعقائد دينه ويزور المعابد للدعاء، والجميل بأن الشعب الياباني ربط قيم الدين بأخلاقيات السلوك وتقديس الوقت والشعور بواجب العمل، كما تخلق ديانة الشنتو التناغم بين الإنسان والطبيعة ومع أخيه الإنسان. وأتذكر حينما وصلت اليابان علق أحد السفراء العرب في وصف اليابان بقوله: quot;ستجد اسلاما بلا مسلمين.quot; ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان