تعيش الدول الديمقراطية الراسخة أزمة مركبة، هي: كيف تقمع قوي المعارضة وتحافظ في الوقت نفسه علي quot;الواجهة الديمقراطية الليبراليةquot;؟ فقد شهد العام 2011 ميلاد الدولة quot;الديمقراطية - القمعيةquot; في العالم، حيث أندلعت موجات من الاحتجاجات المتلاحقة في بقاع كثيرة من العالم المتقدم والنامي، ومن المتوقع أن تستمر quot;مركزية القمعquot; من أعلي إلي أسفل وبكثافة غير مسبوقة في العام 2012 وما بعده، بالتزامن مع سن المزيد من القوانين المقيدة للحريات والصارمة في نفس الوقت، وردود أفعال قوية من المحتجين والمتظاهرين وأنصار حقوق الإنسان والمجتمع المدني.
مواجهة الاحتجاجات المعولمة لم تكن في حسبان أعلام الديمقراطية الليبرالية، حيث تحالف الرأسمالية المتوحشة مع الفساد الديمقراطي أو بالأحري الفساد المؤسسي للحكومات المنتخبة ديمقراطيا، وهو ما أفرز نظرية جديدة في الاقتصاد السياسي لم تدر بخلد quot;آدم سميثquot; أو حتي quot;كارل ماركسquot; نفسه، فقد أصبحت المجتمعات المغلقة والدول غير الديمقراطية مثل quot;الصينquot; هي الأكثر ملائمة للأعمال التجارية ولتدفق رأس المال والاستثمار العالمي - حسب الشركات العابرة للقوميات والمتعددة الجنسيات - من الدول والمجتمعات الديمقراطية الراسخة المثيرة للمتاعب، حيث الاحتجاجات النقابية ومنظمات حقوق الإنسان وquot;طول لسانquot; الإعلام الخاص أو quot;الحرquot;، ويكفي أن الصين (الدولة غير الديمقراطية التي ترفض التوقيع علي معاهدات حقوق الإنسان الدولية) تقدم نفسها للعالم كنموذج يحتذي، وتتباهي بأنها: قادرة على فرض نفسها (اقتصاديا) على القرن الثاني والعشرين أيضا!
الأزمة الحالية التي تجتاح الدول الديمقراطية المتقدمة، والتي قد تؤدي إلى ركود عالمي (إن لم يكن قد بدأ بالفعل)، لا تكشف عن العديد من العلل التي تعيب الأنظمة الديمقراطية فحسب، بل إنها تعمل أيضاً كحاضنة لهذه العلل ووسيلة للتعجيل بتفاقمها، كما يقول quot;دومينيك مويزيquot;، فقد توصل مواطنو أكبر ديمقراطيتين في العالم: الولايات المتحدة والهند إلي (قناعة) راسخة بأن الديمقراطية لا توفر حلولا سحرية لمشاكلهم، وهو ما أدي إلي تنامي quot; الحركات الشعوبية والدينية quot; واليمين المتطرف في العالم اليوم، حيث تلقي هذه الحركات روجا وتشجيعا من الجماهير في العالم المتقدم وغير المتقدم، وهذه quot;الحركاتquot; بدورها هي مصدر التهديد الرئيسي للمؤسسات الديمقراطية المتقدمة.
وهي فكرة سبق وأن (تنبأ بها) وعالجها بمهارة المفكر اللبناني العالمي quot;أمين معلوفquot; في كتابه quot;اختلال العالمquot;، خاصة الفصل المعنون quot;التيقنات الخياليةquot;، حيث يبحث في إشكالية فهم الدين في علاقته بالاقتصاد وتداخله مع النضال السياسي، من خلال تأويل جديد لأشهر المقولات المعروفة عن quot;كارل ماركسquot; في عالمنا العربي الإسلامي: quot;الدين أفيون الشعوبquot;. يقول معلوف أن هذه المقولة لم يقل بها ماركس بدافع الاستهزاء أو التعالي كما فعل تلاميذه، إذ لابد من قراءة نص ماركس نفسه وكما ذكره، وهو: quot;إن الشقاء الديني هو تعبير عن الشقاء الواقعي، وهو من جهة أخرى، احتجاج عليه. الدين زفير المخلوق المضطَهَد، قلبُ عالم لا قلبَ له، كما انه روح شروط اجتماعية لا روحَ فيها؛ إنه أفيون الشعبquot;. (الترجمة الرائعةلعبدالقادر الجنابي، quot;كارل ماركس في نقد الدينquot;، انظر الاطار نهاية المقال)
ويبدو أن quot;الطبقة الوسطيquot; في العالم كله (نفد صبرها) من المسيرة البطيئة للديمقراطية في البلدان المتقدمة، أو قل إن quot;توقيت الديمقراطيةquot; في الألفية الثالثة (أبطأ) من أن يمكنها من الاستجابة للأزمات السريعة المتلاحقة، ناهيك عن تلبية quot;طموحاتquot; الطبقة الوسطي وأحلامها وتطلعاتها، حيث تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في العديد من ديمقراطيات العالم الغنية. ويبدو أن أحد أهم التطورات في quot;العقد الثاني من الألفية الثالثةquot; هو استعداد الجماهير لتجريب مسكنات ليست آمنة أو غير صحية لكنها أسهل وأسرع. ففي الولايات المتحدة يستخدم quot;حزب الشايquot; نفس العبارات والأساليب التي تستخدمها الحركة الشعبية لمحاربة الفساد في الهند بقيادة الناشط الصائم quot;أنا هازارquot;.
التطور اللافت للديمقراطية اليوم، هو أنها أصبحت أكثر quot; شعبية quot; تمارس عبر الانترنت والميديا التفاعلية، وهي البديل القادم بسرعة الضوء (للبرلمانات التمثيلية المنتخبة)، حيث تسمح وسائل التواصل الاجتماعي بنشوء تجمعات أكثر عددا وأفضل تنسيقاً بالإضافة إلي نشر الأخبار بسرعة أكبر، دون تصويب من جانب وسائل الإعلام الرسمية، ومن ثم نشر quot;الغضبquot; والاحتقان والاحتجاج عالميا، حيث تمثل كل موجة مظاهرات في بلد ما (إلهاما) لموجة أخري في بلد آخر، وكما لاحظ الصحفي الأمريكي المخضرم quot;توماس فريدمانquot; فقد كان بعض المتظاهرين الإسرائيليين يحمل لافتة مكتوبا عليها quot;سيروا علي نهج المصريينquot;، وكأن التكنولوجيا الحديثة أصبحت quot;الوسيلة المثليquot; للاحتجاجات الاجتماعية وليست سببا لها، فهي التي اشعلت الثورات في العالم العربي في العام 2011 ضد الاستبداد السياسي، وفي اسرائيل وأسبانيا واليونان وغيرها ضد البطالة وتدني الأجور وكافة الآثار السيئة للرأسمالية.
[email protected]
كارل ماركس في نقد الدين ... إن أساس النقد اللاديني: الإنسان هو الذي يصنع الدين، وليس الدين هو الذي يصنع الإنسان. إن الدين، في الواقع، هو وعي الذات وتقدير الذات لدى الإنسان الذي لم يعثر بعد على ذاته، أو أضاعها من جديد. لكن الإنسان ليس كائنا مجردا، جاثما في مكان ما خارج العالم. الإنسان هو عالم الإنسان، الدولة، المجتمع. وهذه الدولة، وهذا المجتمع ينتجان الدين؛ الوعي المقلوب للعالم. لأنهما بالذات عالم مقلوب. من quot;نقد فلسفة الحقوق عند هيغل: مقدمةquot; |
التعليقات