يملك الرئيس العراقي حجة دستورية مفحمة أمام من يناشدونه بتقديم طلب سحب الثقة من رئيس الوزراء، يذكرها في رسالته المسربة للإعلام، ان صحت نسبتها إليه. فهو يقول ان تواقيعهم لم تبلغ العتبة المطلوبة للمضي في المشروع. لكنه، في النهاية، يختار ان لا يعتمد هذه الحجة ضمن الأسباب الأربعة التي بلورت موقفه الرافض لسحب الثقة. العقبة الدستورية الحاسمة لا مكان لها حتى في ذيل قائمة أسباب الرئيس. ان رفضه ينبع من منطقة أخرى يصفها، في رابع نقاطه، بأنها quot;قناعاتي المبدئيةquot;. وهو جانب حري بالاستكشاف الدقيق في شخصية رمز الدولة وحامي الدستور، خصوصا في quot;الديمقراطياتquot; الناشئة التي يخاف عليها من هزات دكتاتورية ارتدادية.
يعلن الرئيس العراقي، في أسبابه الثلاثة عن عدة أمور: قناعة، وموقف، وتطمين. القناعة، هي ان كرسي رئاسة الوزراء من نصيب quot;الأكثرية الشيعيةquot;. ولها ان تضع فيه من تشاء. والموقف، انه quot;لم ولنquot; يقف ضد هذه الأكثرية وquot;مطالبها واستحقاقاتهاquot;. أما التطمين فيقول ان quot;التحالف الوطنيquot;، اي ممثل الأكثرية، ابلغه استعداده لتنفيذ اتفاقات أربيل. ويمكن الاستنتاج، بكل راحة، ان الرئيس يخاطب هنا ممثلي quot;الأقليتينquot; الكردية والسنية. هل يمكن القول انه المنطق quot;التوافقيquot; ذاته الذي طبع السياسة العراقية بعد 2003 لا أكثر ولا اقل؟
بحسب المنطق التوافقي يتم التعامل مع كل ممثل سياسي لمكون اجتماعي على انه شخصية اعتبارية. بمعنى ان لا ينظر للبرلمان على انه 325 نائبا، بل هو ثلاثة مكونات رئيسة: سنة، وأكراد، وشيعة. الرئيس لجأ الى استخلاص صافي الموقف لأحد المكونات واعتبره quot;رأي المكونquot;. هذه الطريقة اعتمدها، بحسب الرسالة المنسوبة إليه، مع الشيعة. لقد اعتبر ان رأي quot;التحالف الوطنيquot; هو رأي الشيعة. ثم كان لا بد له من اعتماد رأي الأغلبية في quot;التحالف الوطنيquot; لعدم وجود إجماع داخله. لا سبيل عملي لاستخلاص رأي رسمي لـ quot;الأكثرية الشيعيةquot;، التي تحدث الرئيس عن استحقاقاتها إلا بذلك.
لكن المنطق التوافقي ذاته يتطلب من الرئيس ان يستمر في تطبيق طريقته لاستخلاص رأي المكونين الآخرين، السنة والأكراد، وتحديد استحقاقاتهم السياسية أيضا. اي ان يعتبر رأي أغلبية quot;ائتلاف القوى الكردستانيةquot; رأيا رسميا للأكراد. ومن الواضح ان رأي quot;المكون الكرديquot; سيكون رافضا لاستمرار رئيس الحكومة الحالية في منصبه لان quot;الاتحاد الوطني الكردستانيquot; يشكل أقلية داخل الائتلاف. أما مع السنة فستكون الإجراءات التي على الرئيس اتخاذها أصعب قليلا. عليه أولا، ربما عن طريق اللجنة التي شكلها لتدقيق التواقيع، ان يطلب من كل نائب في quot;العراقيةquot; تحديد موقفه كنائب للسنة من عدمه، ليتمكن من احتساب توقيعه او استبعاده لاستخلاص رأي quot;المكون السنيquot;، والذي يجب ان يكون رأي أغلبية ممثلي السنة فقط. وستكون هذه الطريقة متسقة تماما مع ما جرى لاستخلاص رأي المكونين الآخرين، إذا ما تذكرنا ان هناك نواب شيعة، أيضا، خارج حسبة رأي quot;التحالف الوطنيquot;، وان نواب كتلة quot;التغييرquot; خارج حسبة رأي quot;تحالف القوى الكردستانيةquot;. وعندها ستتضح لدى رئيس جمهورية العراق أراء المكونات الثلاثة ليضع لاستحقاقاتها السياسية التوافقية اعتبارا. لكن ما هي هذه الاستحقاقات ان كانت كل المكونات متفقة على ان رئاسة الوزراء من نصيب quot;التحالف الوطنيquot; والرئيس لم يقل سوى ذلك؟
لو أخذنا نظرية quot;الديمقراطية التوافقيةquot; على أصولها، سنجدها تهتم كثيرا بتوفر عامل يسمى quot;توازن القوىquot; بين قطاعات المجتمع. وتقول ان نزعة قادة القطاع الأكبر للسيطرة، بدلا من التعاون مع قادة باقي القطاعات، يدمر مستقبل التوافق وقد يؤدي أما الى دكتاتورية او تقسيم. ومن هنا تأتي أهمية رأي الأكراد والسنة في من يشغل منصب رئيس الوزراء. ومن هنا، أيضا، تتجلى، استحقاقاتهم.
الرئيس قصر حساباته عند حدود الرأي الرسمي لـ quot;الأكثرية الشيعيةquot; فقط ولم يعممها على الجميع. وهنا يتحتم حذف الفرضية التي تقول ان منهج الرئيس توافقي. الرئيس قرر، أيضا، ان لا يعتمد الحسابات الديمقراطية الاعتيادية ويعامل النواب كأفراد يملكون وزنا متساويا لأصواتهم. وأوضح بشكل لا يقبل اللبس بان قراره غير مرتبط بعدم توفر أغلبية برلمانية تساند المشروع. نحذف أيضا فرضية ان الرئيس يتبع نظريات الديمقراطية الكلاسيكية. كيف يفكر الرئيس إذا؟
منطق الرئيس هو ان في مجلس النواب العراقي توجد أكثرية تمتلك quot;الحق الحصريquot; بتحديد الجالس على كرسي الجهاز التنفيذي. وبما ان هذه الأكثرية غير مجمعة على رأي، إذن نلجأ لرأي أغلبية الأكثرية. لكن أغلبية الأكثرية لا تشكل، بالنتيجة، إلا أقلية حاكمة!
انه منطق يفضي الى حكم اوليغارشي يا فخامة الرئيس.
- آخر تحديث :
التعليقات