ما يجري في العالم العربي من غليان تحصيل حاصل للفوضى وغياب العدل.
العدل هو الأساس الذي يهب الأمن، ومن رحم الأمن، تولد كافة الحريات.
بقيت الآية القرآنية من سورة الأنعام لغزا في وجهي حتى نفعتني العلوم السياسية الاجتماعية في فهمها في خطاب إبراهيم لقومه : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون.
الظلم يخطف الأمن. والعدل يورث الأمن.
ومنه قال القرآن: والكافرون هم الظالمون. الظالم هو الكافر والعادل يخرج من الكفر.
من أقام العدل لا يبق كافرا. ومن نشر السلام لا يبقى كافرا.
منه قال المسيح طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون.
يقول القرآن ولاتقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا.
ومنه فالألحاد والكفر هو الظلم، وهي أقبح خصلة في الإنسان والمجتمعات.
يقول القرآن ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب السعير.
هذه المسألة تحتاج لمزيد من التفكيك الفلسفي.

جاء في المقدمة لابن خلدون أن الملك (بهرام) كان يتجول في حديقته مع (الموبذان) كبير الكهنة عندما تفاجأ ببوم ينعب بشدة فسأله تفسير صياحه إن كان يعرف لغة الطيور؟
قال إنه يخطب ود بوم أنثى وهي تشتد في المهر فطلبت خراب عشرين قرية؟ فأجابها: إن أطال الله في عمر الملك أقطعتك ألف قرية خراباً يباباً؟! زلزل الملك واستفرده قائلاً له ويلك ما معنى ما تقول؟
قال أيها الملك إن من حولك تعفنوا بالفساد والرشوة والمحسوبية والوساطة وأنت نائم عنهم فخربت البلد.
شرح ابن خلدون ظاهرة الظلم الاجتماعي تحت فصل بذاته (أن الظلم مؤذن بخراب العمران) يفكك الآلية الاجتماعية لحدوثها: الملك يحرسه القانون وبالعكس في جدلية، والنظام يقوم بالرجال، وهؤلاء يحتاجون للأجور، والمال يحتاج الى مصادر ثرية، وهي تقوم بدورها على اقتصاد حر نشط، وهذا لا يتم إلا بالأمن الاجتماعي على النفس والمال، وهذه تنضبط بالعدل، وبذا كان العدل أرخص بكثير من الظلم وبه تنتصب الدول بقوة وشباب وحيوية.
ولكنني ففكرت بتحليل العدل أكثر فأقول: كما يتشكل الضوء من طيف سبعةٍ من الألوان تشكل قاعدته (ثلاثة) ألوان هي الأحمر والأزرق والأصفر ، كذلك فإن جميع ما نتذوقه قاعدته (سداسية) من مذاقات مثل الحلو والمر والحامض، وفي الأنف مغاطس فراغية محددة لاستقبال الغازات في نهايات عصب الشم يتم التعرف عليها كيميائياً بواسطة شيفرة (سباعية) من الروائح مثل الاتيرية والكافورية والنعناعية والمسكية، وكل الروائح والمذاقات والألوان هي مزيج من هذه الطيوف بنسب مختلفة.
إذا امتزج اللون الأحمر مع الأصفر أخرج البرتقالي، وإذا لمست مقدمة اللسان السائل عرفت حلاوته، وإذا دخل الإنسان الغرفة استطاع التمييز فوراً بين عطر نفاذ وعفن فاحت رائحته لفترة ثلاث دقائق فقط، ثم يعتاد عليها الإنسان.
كذلك بني الكون المادي على نفس السلم الموسيقي فتم تكوينه درجة درجة من أبسط العناصر الممثل في الهيدروجين، وانتهاءً بأثقلها اليورانيوم المشع.
كذلك عرف أن البناء الذري للعناصر يقوم على (التعادل الكهربي) فأبسط العناصر (الهيدروجين) يحمل في نواته بروتون موجب ويدور في فلكه إلكترون واحد سلبي الشحنة ؛ فجوهر (العدل) الوجودي هو التوازن بين عناصره في أي مستوى.
كذلك بنيت (الانفعالات النفسية) عند الإنسان على ما يبدو وفق تركيبة أساسية من (خمس) ألوان من الانفعالات من مشاعر الخوف والغضب والحزن والسرور والاشمئزاز.
هذه الألوان الخمسة من الانفعالات هي التي تولد بقيتها من مزيج منوع منها.
وتبنى فرويد (FREUD) بفضول الفيزيولوجيا فرأى أنها ستفسر آخر الأمر ما يجري في الجهاز العقلي.
كذلك تصور الفلاسفة في محاولتهم دراسة تصرفات الإنسان أن هناك أكداساً من الدوافع الأخلاقية، ولكن لدى تحليلها كما فعل علماء الذرة أمكن تبسيط التركيب الى ثلاثة أخلاق أساسية يمكن اعتبارها البنى الجوهرية عند الفرد هي:
(الشجاعة) و(العفة) و(الحكمة).
هذه (الأخلاق) الثلاثة ترتبط ببعضها مثل المثلث ذو الأضلاع الثلاثة، كل ضلع فيه يشكل محوراً لتوجه أخلاقي محدد، نقطة التوازن فيه هي المنتصف، فكل فضيلة هي وسط بين رذيلتين؛ فالشجاعة هي وسط بين الجبن والتهور، والحكمة في منتصف المسافة بين الخبث والحماقة، والعفة تتأرجح بين الجمود والشره، ويهدف المزيج الثلاثي الى تكوين ما يشبه (السقَّالة) المتوازنة المتشابكة من كل ضلع أخلاقي لإحكام نقطة التوازن في قلب المثلث الأخلاقي، الممثل في خُلُق (العدل) عندما نتصور أن كل فضيلة انطلقت من إسقاط هندسي من منتصف الضلع لتلتقي ببقية الإسقاطات الهندسية من الضلعين الآخرين؛ فالعدل هو الميزان الذي قامت عليه السموات والأرض، وهو الذي يرفع المجتمعات أو يخسف بها، وهو ضمانة التوازن في النفس الإنسانية.
يمكن أن نستوعب (حديث هلاك الأمم) في ضوء جديد؛ فانهيار الأمم يتم بفقدان العدل الداخلي، قبل أن يتشكل بفعل هجوم خارجي (إنما أهلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد) وهذا يعطي إسقاطاً خطيراً على فهم جوهر النزاع العربي الإسرائيلي، وأن مشكلتنا داخلية بالدرجة الأولى، ولن ينفعنا صب اللعنات على إسرائيل، وأن وجود إسرائيل نبت وولد من انهيار المناعة الداخلية عندنا؛ فهيأ لانفجار الخراج الصهيوني كما تحدث (الاختلاطات) في الأمراض الخطيرة (قارن كمية الضحايا على يد الجيش السوري في تمرد 2011م ـ 2012م مقارنة بما فعلته إسرائيل؟)
علينا أن نستوعب حقائق كونية في مستوى الذرة وانتهاء بالمجرة، من قوانين الفيزياء الى قوانين النفس والمجتمع.
إن الهرم لا يجلس بدون قاعدة، كما أن المرض لا ينتشر بدون انهيار الجهاز المناعي، وعود الثقاب يفجِّر برميل البارود لا وعاء الماء، وأن البعوض يخرج من المستنقعات، وأن الغربان تحوم حول الجثث، وأن الأمم يتم السيطرة عليها عندما تفقد القدرة على تقرير المصير، وأن (القابلية) للاستعمار تشكلت عندنا قبل أن يطأ أول عسكري أجنبي أرضنا، وأن الحضارات تتهاوى بفعل الانتحار الداخلي قبل الغزو الخارجي، وأن البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا.
عندما كتب (محمد ذو النفس الزكية) الى جعفر المنصور معللاً قيامه بالثورة المسلحة، استند الى غياب مجتمع العدل، ونمو مجتمع الشيع والطبقات ذات الامتيازات، فاستخدم الآية القرآنية كسلاح مضمون في الصراع السياسي (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً) وبلغ من تحمس (أبو حنيفة) صاحب الاجتهاد المذهبي المشهور أن قارن خروجه مع خروج رسول الله ص الى بدر؛ فأرسل له معونة مالية كلفته حياته لاحقاً مسموماً على بعض الروايات، ولكن أبا جعفر المنصور استخدم نفس السلاح من أجل إثبات مشروعية حكمه. (قارن دعاية النظام السوري في قتاله للثورة بضراوة أنه يقاتل العصابات المسلحة المندسة مذكرا بقول فرعون من قبل: إنهم شرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حاذرون!)
كانت هذه الأسلحة ومازالت في الصراع الإيديولوجي لاحتكار الحقيقة و بناء سيادة المشروعية مأساة لم تحل المشاكل بل زادتها تعقيدا، وتوالت معارك صفين في التاريخ والتوظيف الإيديولوجي لاحتكار الحقيقة.
انهيار الأمم يتم بفقدان العدل حين ينقسم المجتمع الى شرائح قوية وضعيفة، فيفقد الانسجام والتراص والتماسك الداخلي، فالحديد الصلب هو ذلك المعدن الذي تنظف من الشوائب الى حد كبير، وبقدر دخول الشوائب يفقد المعدن من صلابته، وحتى ينظف المعدن من الشوائب لابد من تطهيره بالنار.
كذلك النفس الإنسانية فهي تطهر بالمعاناة (لقد خلقنا الإنسان في كبد) ولذا كانت المكابدة والمعاناة من أسس الوجود التي تصقل الإنسان وتطهر جوهره.
والمجتمع الفرعوني الذي يمثل نموذج اللعنة التاريخية (واتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود) هو ذلك المجتمع المقسم والمهشم والمجزئ الى شرائح وشيع وطبقات ذات امتيازات (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا).
كما أن المجتمع يتدمر بانزلاقه من مجتمع متجانس الى مجتمع الشيع والطبقات (أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض) وتتدمر الدعوات وتنفجر المجتمعات داخلياً من خلال تحول أصحاب الرسالة الى شيع وأحزاب متنافسة متناحرة (من الذين فرقوا دينهم شيعا كل حزب بما لديهم فرحون).
لذا كانت رسالة الدين الجوهرية هي أقامة مجتمع العدل من خلال محو الفوارق والتخلص من مرض الانقلاب الى (شيع) و سحب الامتيازات من أي شخص أو عائلة أو طبقة أو حزب أو تجمع أو طائفة إلا من خلال الجهد والتقوى، وتشكيل مجتمع متجانس توحيدي، والدفاع عن الشرائح المستضعفة والمسحوقة والمهشمة المهمشة من اليتيم والفقير والمسكين والأرمل والأسير والطفل والمريض والعجوز والمراهق، وأهمها إطلاقاً المرأة التي تعتبر الشريحة المسحوقة الأعظم في المجتمع.
قامت الذرة على التوازن الكهربي، واستقامت النفس بالانضباط الأخلاقي، ونما المجتمع بتقلص ظلال الظلم، وشمخت الدول بصرامة العدل، وانهارت الحضارات بالمرض الفرعوني.
مع كل هذا فإن ثغرة العدالة الكونية تطل بصور لانهائية ويبقى يوم الحساب هو الذي يضع الموازين القسط (وإن كان مثقال ذرة أتينا بها وكفى بنا حاسبين).
ومنه كان الإيمان باليوم الآخر يشكل ضرورة كونية.
ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا ظلم اليوم.