منذ انقلاب الضباط الاحرار في يوليو 1952 وحتى الآن لاتزال السلطة في مصر بيد الجيش. كل الذين حكموا مصر من المرحوم عبالناصر والراحل السادات و مبارك وصولا الى الفريق حسين الطنطاوي كانوا ضباطا، بالرغم من ان السلطة انتقلت من ضابط الى آخر بشكل مفاجئ كالسكتة القلبية عند ناصر او الاغتيال لدى السادات او الانقلاب العسكري غيرالتقليدي في حال مبارك. الانتفاضة المصرية في يناير2011 كانت انقلابا عسكريا ويمكن تسمية هذا الانقلاب بـالانقلاب quot; مابعد الحداثي quot;. االسبب الذي ادى الى الانقلاب موضوع البحث هو رفض العسكر ان تنتقل السلطة الى المدنيين، حيث كان السيد مبارك قد هيأ نجله جمال لرئاسة الجمهورية ووضع نهاية لحكم العسكر والذي دام ستين عاما كما هو معلوم. الجيش لم يكن في وسعه القيام بانقلاب عسكري كالسابق من خلال بيان في الاذاعة ومنع التجول وبرقيات التأييد المعدة سلفا واعتراف من الخارج، اذ ان عالم اليوم وعلى رأسه امريكا والغرب، بل حتى الطغاة، متفقون تماما على عدم السماح لمثل هذه الانقلابات، وقد رأينا هذا الرفض العالمي لعدد من الانقلابات في السنوات القريبة السابقة لاسيما في القارة الافريقية. لهذا اتجه الجيش بقيادة الفريق طنطاوي ومن حوله زملاؤه الضباط الى طريق ملتو في انقلابهم كالذي شاهدناه من تدبير انتفاضة يناير التي ظلت حبيسة ميدان التحرير، ولكن لم يستطع التحكم بالاحداث التي رافقتها كما كان قد خطط له. المجلس العسكري، اي الحاكم الفعلي الآن في مصر، يريد لعب نفس الدور الذي اداه الجيش التركي بدقة والذي سيطر على السلطة ولكن من وراء الستار لمدة ثمانين عاما والذي خسره قبل سنوات قليلة على ايدي حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا حاليا. الجيش التركي لايزال يحلم بالعودة الى السلطة من خلال اشعال حرب اهلية كردية تركية تحت ذريعة انقاذ الوطن كما فعله ضد اليسارفي انقلاب افرين عام 1980. هناك فروقات كبيرة بين اساليب ادارة السلطة بين الجيشين المصري والتركي واهمها هو ان الحاكم الفعلي من وراء الستار في تركيا كان دائما رئيس الاركان وقادة الجيوش البرية والبحرية والجوية والجاندارما كانوا يغادرون السلطة بعد اربعة اعوام على الأكثر ويذهبون الى التقاعد ليأتي الآخرون غير مخلين بالتسلسل العسكري في الرتب للاستمرارعلى نفس النهج. بينما في مصر كان الحاكم العسكري هو شخص الرئيس الديكتاتور حتى اللقاء بعزرائيل ودائما بشكل مفاجئ. لهذا وبعد عقود طويلة من استمرار العسكر التركي باسلوبه الفريد في تداول السلطة تكونت البنية التحتية الاساسية ضمن الجيش وخارجه من المدنيين للامساك والحفاظ على زمام السلطة بحرفية محكمة وتداول للسلطة فيما بينهم كما ورد اعلاه. البنية التحتية خارج الجيش في تركيا كان جهاز القضاء والتكنوقراط والاعلام واساتذة الجامعات والتنظيمات السرية المسلحة مثل ارغنكون وحتى المافيات وعصابات الجريمة وهذه البنية كانت تتطور وتتجذر لان التسليم والاستلام للسلطة كان بيد الهيئة العسكرية السرية والمتجددة دوما وليس بيد شخص واحد وحيد كالرؤساء المصريين. في نفس الوقت حافظ الجيش التركي على علاقاته الوثيقة مع الغرب والناتو،حيث نجح في تطبيق كل الشكليات الظاهرية للديمقراطية بنجاح مذهل من انتخابات شفافة وتعدد الاحزاب وصحافة حرة ونقابات مهنية وحق الاضراب وبرلمان منتخب مع الاضطرار الى اللجوء الى الانقلابات عند ظهور اية بوادر تشيرالى تقدم اليسارواحتمال وصوله الى السلطة عن طريق الانتخابات ولكن ذلك الجيش حقق نجاحا منقطع النظير في عدم تحقيق الديمقراطية ودولة الحقوق ثمناً لهيمنته على الدولة وامتيازاتها. بالمقابل كان الحكم في مصر بيد حاكم مطلق فرد والدستور والقوانين كلها تُفصل على مقاساته ويقود الدولة باوامر شفهية. لذلك بقي نظام حكم الجيش دون اية بنى تحتية كالذي تشكل في تركيا ابان الفترة الطويلة من حكم الجيش التركي. من اهم تلك البنى التحتية الاساسية بيد العسكرالتركي كان الجهاز القضائي وعلى رأسه محكمة الدستور ذلك الجهاز والذي كان ظاهره قمة الديمقراطية بينما جوهره وعمله الرئيسي كان القضاء المبرم على اية خطوة ديمقراطية حسب اهواء الدولة السرية في رئاسة اركان الجيش. محكمة الدستوركانت تتمتع بحصانة وسلطة قل نظيرها اذ كانت قراراتها قطعية تفرضها حتى على البرلمان المنتخب اي السلطة التشريعية التي تمثل الشعب. من سخرية القدر ان تصدر القرارات التي تبدأ بـ quot; باسم الشعب.. قررت المحكمة quot; بينما في الواقع كانت تحتقرالشعب لصالح الطغمة السرية الحاكمة. المحكمة كانت تلغي الاحزاب الممثلة في البرلمان بجرة قلم وتسقط الحصانة عن ممثلي الشعب في نفس الوقت كانت المحاكم العادية ومحاكم امن الدولة عبارة عن العصى الغليطة التي كانت تهوي على رقاب كل من تسول له نفسه الخروج عن الطاعة للجيش. المجلس العسكري الحاكم في مصر هو في سباق مع الزمن لتطبيق التجربة التركية، وقرارات محكمة الدستور بحل مجلس النواب ماهي الا خطوة مرتجلة بعيدة كل البعد عن الحرفية التي كانت تتمتع بها نظيرتها التركية. مصرالآن بلد مهشم شعبا وسلطة ومجرد من اية بنى تحتية تُهييء البلد لايجاد اي صيغة لنظام ما بما فيه نظام عسكري هو امر بعيد المنال في هذه الفترة وربما لعقود على المدى الطويل. لذلك نشاهد هذا التخبط الحاصل لحكم المجلس العسكري من قرارت متناقضة وعشوائية وانتخابات ومجالس ومن ثم الغاؤها وصولا الى هذه الدوخة المتعلقة بمحاكمة مبارك وسجنه وعلاجه وطلسمة موته وكيفية اقامة جنازته..... الخ. حتى الاعلان عن نتائج انتخابية صارت تشكل ازمة في البلاد! والسبب هو عدم وصول المجلس الى قرار حاسم لتسمية الرئيس الجديد وليس عدد الاصوات او الطعون كما يراد تسويقه. قلق المجلس وتدابيره الفوضوية تنعكس على الشارع والجماهير والخشية كبيرة من ازدياد تراكمه وبالتالي الانفجار والفلتان. مصر هي بحاجة ماسة الى مرحلة انتقالية لابد منها ولكن لا المجلس العسكري ولا الحركات السياسية المصرية لديهم القدرة على انقاذ البلاد من الورطة الحالية والخطيرة. الحل هو اتفاق المجلس العسكري والقوى السياسية على تبني برنامج مرحلي يهدف الى انهاء الحكم المركزي ونقل صلاحيات المركز الى ادارات محلية ذات برلمانات منتخبة وتتحمل المسؤولية كاملة وبهذا يمكن التخلص من استبداد المركز وبالتالي قطع الطريق على اي نظام استبدادي في المستقبل.
من هنا يبدو واضحا ان تجربة الجيش التركي اصبح خارج التاريخ ويستحيل تطبيقه في مصرفي القرن الواحد والعشرين.
طبيب كردي سوري
bengi.[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات