أفرز الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 واقعا جديدا في علاقة تركيا بأكراد العراق وغير من المعادلات السابقة التي كانت تحكم العلاقة بين الجانبين، فرئيس إقليم كردستان العراق مسعود البارزاني لم يعد مجرد زعيما عشائريا كما كانت أنقرة تصفه سابقا، بل بات السجاد الأحمر يفرش له كلما أراد زيارة تركيا، فيما حركة التجارة التركية تجاه كردستان العراق في تواصل على مدار الساعة حتى تبدو وكأنها في سباق مع الزمن بحثا عن السياسة في العراق الجديد حيث بات الأكراد يشكلون رقما صعبا في صناعة المشهد السياسي العراقي، معادلة تشير إلى انتقال العلاقة بين الجانبين والتي اتسمت بالتوتر والقلق والخوف والعداء طوال العقود الماضية إلى مرحلة جديدة، أساسها المصالح والتعاون، كلا لتطلعاته وأسبابه الخاصة،ولعل ما يعطي لهذه العلاقة ديناميكية خاصة تلك التغيرات الجارية في المنطقة وحالة الاصطفاف الإقليمي إزاء الأزمة السورية والصراع التركي ndash; الإيراني على المشرق العربي وتحديدا على العراق وسوريا في ظل التطورات الجارية.

* سقوط خطوط الحمر
في الذاكرة الكردية ثمة مخاوف دفينة إزاء تركيا التقليدية،ولعل سبب ذلك تلك التجربة التاريخية التي بدأت مع تأسيس تركيا الجمهورية على يد أتاتورك عام 1923 واستمرت إلى نهاية عهده حيث تم خلال هذه الفترة سحق العديد من الثورات والحركات الكردية، إذ قمع الجيش التركي بقوة ثورة الشيخ سعيد بيران عام 1925والتي اندلعت احتجاجا على إعلان أتاتورك إلغاء الخلافة الإسلامية وإنكاره للحقوق القومية الكردية التي وعد بها، وقد أعدم لاحقا معظم قادة الثورة بما في ذلك الشيخ سعيد.
بالنسبة لأكراد العراق، فإنه إضافة إلى هذا الإرث من الخوف الدفين ثمة مخاوف ارتبطت بالسياسة التركية التقليدية تجاه شمال العراق، ولعل ما عزز منها البرنامج السياسي للحركة القومية التركية المتطرفة بزعامة مؤسسها الراحل ألب أصلان توركيش والذي كان كثيرا ما يشبه شمال العراق بشمال قبرص، وسط دعوات تاريخية تجاه ولاية الموصل ( كانت في السابق تشمل كل شمال العراق الحالي ) والقول إن تركيا تنازلت عنها لبريطانيا نتيجة تداعيات الحرب العالمية الأولى، فضلا عن إظهار تركيا نفسها بمظهر المدافع عن تركمان العراق وتجربة الاجتياحات العسكرية المتكررة لشمال العراق. في المقابل، نظرت تركيا على الدوام إلى الأكراد على أنهم مجرد عشائر وقبائل متمردة تبحث عن إقامة دولة كردية في المنطقة ومستعدة للتحالف مع أعداء تركيا. وعليه،عندما غزت القوات الأمريكية العراق كانت تركيا وضعت مجموعة من الخطوط الحمر قبل أن تسقط مع الزمن،ولعل من أهم هذه الخطوط : 1- عدم السماح بدخول القوات الكردية ( البيشمركة ) إلى مدينتي كركوك والموصل والسيطرة عليهما. 2- رفض ضم كركوك إلى إقليم كردستان تحت أي بند، لقناعة تركيا بأن مثل هذا الضم سيؤمن التمويل اللازم لإعلان إقامة دولة كردية. 3- ان إعلان دولة كردية بعد انهيار نظام صدام حسين سيؤدي إلى تداعيات مباشرة على وضع أكراد تركيا الذين يزيد عددهم على أكراد العراق بأضعاف، وهو ما لن تسمح تركيا به. 4- الدفاع عن حقوق الأقلية التركمانية في حال تعرضها للاضطهاد من قبل أكراد العراق. دون شك،هذه الخطوط الحمر كانت تركيا ترى أنها تمس أمنها القومي وأنها مستعدة لاجتياح شمال العراق في حال خرقها من قبل أكراد العراق، ولكن يمكن القول إن عدم حدوثها يعود إلى سببين رئيسين. الأول : ان أكراد العراق لم يعلنوا دولة كما كان متوقعا تركياً، بل المفاجئة كانت ان أكراد العراق نقلوا ثقلهم السياسي إلى بغداد ومن هناك مارسوا سياسة كردية ضمنت حقوقهم ونجحت في إيجاد علاقة سلمية بين الإقليم والمركز قبل ان تتوتر مجددا. ومن جهة ثانية جمدت المخاوف دول الجوار الجغرافي، أي تركيا،إيران وسوريا إزاء مسألة إقامة دولة كردية في المنطقة. الثاني : إعلان الإدارة الأمريكية مرارا عقب الغزو أنها لن تسمح لدول الجوار العراقي بالتدخل في شؤونه الداخلية كان بمثابة تأكيد قطعي لأنقرة بأن سياسة التوغل في شمال العراق أنتهت وان الاستمرار في النهج القديم سيؤدي إلى الاصطدام مع الإدارة الأمريكية نفسها، ويبدو ان تركيا أخذت هذا العامل بعين الاعتبار وأدرجته في حساباتها.
في الواقع، إذا كانت التجربة التاريخية السلبية للعلاقة راكمت صفحات من عدم الثقة وزرعت إرثاً من الخوف والتوتر، فان سقوط الخطوط الحمر وضع السياسة التركية في امتحان مع نفسها إزاء كردستان العراق قبل أن تشهد العلاقة بين الجانبين خلال السنوات الأخيرة انفراجة كبيرة على وقع المصالح المتبادلة والاصطفاف الحاصل على وقع الصراعات الإقليمية حيث التوتر بين أنقرة وحكومة نوري المالكي وصلت إلى مرحلة غير مسبوقة بالتزامن مع التوتر في علاقة بغداد بأربيل.
* لغة المصالح
لعل أفضل وصف للعلاقة الجديدة بين تركيا وكردستان العراق ما قاله وزير التجارة الخارجية التركي ظافر كاغليان ( إن التجارة هي مفتاح السياسة وتطوير علاقاتنا سيسمح بحل مشكلاتنا )، وترجمة هذا الكلام على أرض الواقع يحيلنا إلى لغة الأرقام، فحسب التقارير التركية والكردية بلغ حجم التجارة بين الجانبين خلال العام الماضي قرابة ثمانية مليار دولار من أصل 12 مليار دولار هي اجمالي حجم التبادل التجاري بين تركيا والعراق، وسط توقعات بأن يصل حجم التبادل التجاري مع إقليم كردستان نهاية العام الجاري إلى أكثر من عشرة مليار دولار، وهو رقم ضخم يضع إقليم كردستان في المرتبة الخامسة بين الدول أو الجهات التي تتعامل تركيا معها تجاريا. في الواقع، هناك أربعة أسباب رئيسية تقف وراء هذا التحول الكبير في العلاقات التركية ndash; الكردية العراقية، وهي:
1- الرغبة المتبادلة في الاستفادة، فتركيا تسعى للاستفادة من الصعود الكردي في العراق وتعاظم نفوذ الأكراد ودورهم في صوغ المشهد السياسي العراقي، ومثل هذا الأمر يدخل في الحسابات الإقليمية للدول والتنافس الخفي- والعلني على رسم السياسة العراقية، حيث التنافس التركي ndash; الإيراني في العراق مع اختلاف أسلوب كل طرف. أما الأكراد فيريدون إقامة علاقة قوية مع دولة إقليمية مؤثرة تشكل منفذا لهم على الغرب وتحديدا الولايات المتحدة.
2- السعي التركي الحثيث إلى الاستفادة من أكراد العراق في محاربة حزب العمال الكردستاني الذي يتخذ من المناطق الحدودية المشتركة مع إيران معقلا لقواعده العسكرية وصولا إلى إيجاد حل للقضية الكردية في تركيا، وهو أمر يلقى الترحيب من قبل أكراد العراق شرط اعتماد الحل السلمي.
3- مظلة الدور الأمريكي، فالولايات المتحدة هي حليف مشترك للجانبين، وكان لها دور بارز في منع تفجر العلاقات بين الجانبين خلال الفترة الماضية وصولا إلى إقامة علاقة جيدة بينها. 4- أمام هذا التوافق السياسي يبدو العامل الاقتصادي مغريا ومنتجا في الوقت نفسه لحالة من الوئام والدفء في العلاقات بين الجانبين،إلى درجة ان ثمة من يتحدث عن استعداد تركيا للاعتراف بإقامة دولة كردية في العراق.

* آفاق العلاقة
دون شك، تشكل العوامل السابقة دوافع كفيلة بنسج علاقات جديدة لتجاوز المخاوف الدفينة وبلوغ مرحلة من الثقة والتعاون والعمل المشترك، فمسار العلاقة بينهما بدأ يتخذ شكل الانفتاح الكامل وعلى كافة المستويات. ولعل من أهم مظاهرها : 1- سلسلة الزيارات المتبادلة والرفيعة المستوى، فقد أصبح مألوفا ان يقوم وزير الخارجية التركي احمد داود أوغلو بزيارة أربيل ويقارن من هناك بين أربيل والمدن التركية ويضعهما في مصير واحد، في المقابل يزور مسعود البارزاني وباقي مسؤولي الإقليم تركيا ويتم استقبالهم بالسجاد الأحمر في إشارة إلى الرغبة المشتركة في تطوير العلاقات بينهما. 2- الاعتراف التركي الضمني بالحكم المحلي لأكراد العراق بعد إقامة قنصلية في أربيل وغياب التحذيرات السابقة من إقامة الفيدرالية، وهذا أمر يعزز من انفتاح أكراد العراق على تركيا والثقة بها وفتح الإقليم أمام المصالح التركية، خاصة وان تركيا لم تتحدث عن حقوق التركمان وإظهار نفسها بمظهر المدافع عن حقوقهم أمام حجم الإغراءات من العلاقة مع أكراد العراق. 3- جملة المشاريع التركية الضخمة في كردستان العراق، إذ تشير التقارير المشتركة إلى أن نحو 90 بالمئة من المواد الغذائية في إقليم كردستان تأتي من تركيا، كما أن الشركات التركية تزدهر في الإقليم لدرجة أنها تكاد تنفرد في مجال المقاولات والعمران وإقامة مشاريع البنية التحتية، وقد اتفق الطرفان مؤخرا على إقامة سكة حديد تربط بين اسطنبول وأربيل فضلا عن خطوط جوية، كما دخلت بقوة على خط استثمار النفط والغاز في العراق خاصة بعد اتفاق الطرفين على مد خط انابيب مستقلة لنقل النفط وأخر للغاز. 4- أمام هذا التحسن في العلاقات تبقى عيون تركيا شاخصة إلى تطوير تعاونها مع أكراد العراق من اجل إيجاد حل لمشكلة حزب العمال الكردستاني، ويبدو أن هناك جهودا كبيرة تبذل في السر، خاصة في ظل اللقاءات المتواصلة بين قادة اجهزة استخبارات تركية وزعيم حزب الكردستاني المسجون عبدالله أوجلان والحديث عن دور كردي عراقي للتوصل إلى صيغة للحل قبل أسابيع من زيارة رجب طيب اردوغان إلى واشنطن والحديث عن ان الأخير يحمل معه ورقة لحل هذه القضية بالتشاور مع الحليف الأمريكي عشية بدء الولاية الثانية للرئيس باراك اوباما. في الواقع، من الواضح أن حجم المصالح المشتركة بين الجانبين بدأ يتجاوز حجم الخلافات السابقة، والمخاوف التاريخية،ويبدو ان التطورات الجارية في المنطقة تدفع بالجانبين إلى تطوير علاقاتهما إلى مستوى التحالف، ليبقى السؤال: هل سينال البارزاني الدولة الكردية من أردوغان؟ سؤال يستولد سؤال أخر، وهو هل ستكون ولادة دولة كردية في العراق بداية تحقيق العثمانية الجديدة على الأرض لطالما كان العراق هو أرض الصراع بين الأمبراطوريتين الصفوية والعثمانية؟