مع مطلع العام الجديد، قفز الحديث عن وجود فرصة تاريخية لتسوية القضية الكردية سلميا في تركيا إلى واجهة المشهد السياسي التركي والكردي. بدأت القصة في الأول من الشهر الجاري عندما كشفت مصادر تركية عن أنه بتكليف من اردوغان أجرى رئيس الاستخبارات العامة التركية هاكان فيدان محادثات مع زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان المعتقل في إمرالي، وقضى معه يومين من أجل التوصل إلى وثيقة للحل عبر سلسلة خطوات ومراحل. بعد ذلك بيومين سمحت السلطات التركية وللمرة الأولى منذ تاريخ اعتقال أوجلان قبل نحو 15 عاما للنائبين الكرديين احمد تورك وآيله أكات بزيارة أوجلان في السجن بغية الإطلاع منه على ما جرى، لتشهد الساحتين الكردية والتركية حملة من الردود والمواقف اتسمت جميعها بالتأييد والحذر باستثناء موقف الحركة القومية المتطرفة الذي اتسم بالرفض الشديد، بحجة ان ذلك سيؤدي إلى تقسيم البلاد.
في زحمة النقاش والحسابات وتسريب السيناريوهات... جاء خبر اغتيال ثلاث ناشطات كرديات في العاصمة الفرنسية باريس كالصاعقة على الأكراد، خاصة وان أحداهن وهي سكينه جانسيز كانت المرأة الوحيدة من بين مؤسسي حزب العمال الكردستاني وقضت سنوات عديدة في السجون التركية قبل ان تتنقل إلى لبنان وسوريا والعراق ومن ثم إلى أوروبا،وقد سمعت من أوجلان شخصيا إشادة كبيرة بنضالات جانسيز ومواقفها داخل السجون وخارجها،معتبرا أياها رمزا للمرأة الكردستانية المقاومة. الخبر الذي كان كالصاعقة، ذكر الأكراد وعلى الفور بجريمة اغتيال الزعيم الكردي الإيراني عبد الرحمن قاسلمو في العاصمة النمساوية فينيا عام 1989 بعد ان قدم إلى هناك لإجراء مباحثات مع وفد إيراني رسمي لإيجاد حل سلمي للقضية الكردية في إيران، حيث اتهمت السلطات النمساوية لاحقا المخابرات الإيرانية بالضلوع في هذه الجريمة،وقد دفع المشهد وتوقيته العديد من الأطراف الكردية إلى اتهام المخابرات التركية بالضلوع في جريمة اغتيال الناشطات الكرديات مع ان المنطق يستدعي انتظار معرفة نتائج التحقيقات الجارية،وإلى أن تظهر هذه النتائج تتسارع كل من السلطات التركية وحزب العمال الكردستاني إلى طرح رؤيته للحل. حسب المصادر التركية والتي سربتها وسائل اعلام تركية قريبة من حكومة حزب العدالة والتنمية،فان رؤية حكومة اردوغان تقوم على وقف اطلاق النار وانسحاب المقاتلين الأكراد من الداخل التركي إلى معاقل الحزب في إقليم كردستان العراق، والبدء بنزع سلاح المقاتلين وإصدار عفو عام عن عناصر الحزب مع بحث مصير قياداته وتأمين ملجأ لهم، واطلاق سراح المئات من السجناء الأكراد، على ان تكون هذه الخطوات متسلسلة وتسمح بالانتقال إلى المرحلة الثانية،أي مرحلة المعالجة السياسية التي من أهم معالمها إقرار قانون للإدارة المحلية يشمل كل تركيا وليس المناطق الكردية فقط . مقابل الرؤية التركية هذه، تقوم الرؤية الكردية على خطوات محددة منها : النظر في وضع أوجلان في السجن، إصدار عفو عام وشامل عن جميع عناصر وقيادات الحزب في الداخل والخارج، الاعتراف بالهوية الكردية دستوريا، ومنح الأكراد حكما ذاتيا في مناطق جنوب شرقي البلاد. ولعل مقارنة بسيطة بين الرؤيتين، تضعنا أمام تركيز الجانب التركي على أولوية نزع سلاح حزب العمال الكردستاني قبل كل شيء والتهرب من أي اعتراف بكيان ذاتي للأكراد، فيما الجانب الكردي يركز على حل متكامل يربط نزع سلاحه بحل سياسي شامل ودائم. وإذا كان مفهوما ان يركز كل طرف على أولوياته ويحاول ان يفرضها على الطاولة، فان ثمة معركة حقيقية جارية بين الزعيمين اردوغان وأوجلان،مع فارق أن الأول سلطان تركي معاصر يتحدث بلغة الباب العالي، فيما الثاني معتقل في جزيرة معزولة ولكنه يحتل مكانة كبيرة في وجدان أكراد تركيا والعديد من أكراد الخارج،وحقيقة فأن الرجل ورغم مرور قرابة 15 عاما له في السجن الا أنه ما زال صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في تحديد مصير القضية الكردية في تركيا، وهذه حقيقة يبدو أن الحكومة التركية أدركتها مؤخرا، وعليه بعد سنوات من وصفه بالإرهابي وقاتل الأطفال والمجرم الذي يستحق مليون حكم اعدام ...أتجهت إلى التفاوض معه مباشرة ومن دون وساطات على أمل أن يقتنع الرجل في لحظة ما بتوجيه رسائل إلى القيادات العسكرية لحزبه من أجل نزع سلاحه والانخراط في تسوية سياسية، مع أن من يعرف أوجلان عن قرب يدرك أن هذا الرجل لا يثق بالوعود التركية. محنة تركيا هنا، تبدو أنها مجبرة على الحوار مع رجل وصف على الدوام بالإرهابي والقاتل، والتحدي هنا هو في كيفية الإقتناع بأن هذا (الإرهابي) كان يدافع عن قضية شعب حرم من حقوقه عبر التاريخ دفع من أجل ذلك الغالي والنفيس، ليتنقل بذلك من خانة الإرهابي إلى المناضل الذي كثيرا ما يقارنه الأكراد بنيلسون مانديلا. ومحنة تركيا هنا أيضا هي أنها تدرك ان الشخص الوحيد الذي يستطيع إنزال مقاتلي حزب العمال من الجبال هو اوجلان،وان في الساحة الكردية التركية لا حزب يستطيع ان يحل محل حزب العمال أو ان يكون بديلا عنه، وهي تدرك في العمق أنه حتى حزب السلام والديمقراطية الكردي الممثل في البرلمان بــ 36 نائبا، ليس سوى الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني ويأتمر هو الأخر بأوامر أوجلان، وعليه فان الرجل هو العقدة والحل معا. الأسئلة التي تطرح نفسها هنا كثيرة وهي من نوع : ما الذي يدفع بأردوغان إلى تكليف رئيس جهاز الاستخبارات العامة التركية هاكان فيدان الذهاب إلى إميرالي والبقاء هناك ليومين مع أوجلان من أجل التوصل إلى وثيقة للتسوية؟ هل حقا هو مجرد الرغبة في حل المشكلة الكردية التي أصبحت مشكلة مزمنة لبلاده ؟ أم استباق للخطر الكردي المحدق بتركيا في ظل ما يجري كرديا في العراق وسوريا؟ أم هو التطلع إلى دور إقليمي أكبر من بوابة الورقة الكردية في المنطقة ؟ أم انه كمين مدروس لتوجيه ضربة قاصمة لحزب العمال الكردستاني؟ أم كل ذلك معا؟ في الواقع، ثمة قناعة تركية عميقة بأن الديمقراطية في تركيا تبقى ناقصة دون إيجاد حل مقبول للقضية الكردية،وثمة قناعة أيضا مفادها: استحالة حل هذه القضية اعتمادا على النهج الأمني وأن اسلوب الإقصاء والإنكار لم يعد مجديا، ولكن رغم هذه القناعة الدفينة فإن ثمة إصرار تركي قوي على عدم تقديم أي تنازل أو إقرار من شأنه ان يؤدي إلى شكل من الاعتراف بالواقع الكردي اجتماعيا وسياسيا وتاريخيا...،لقناعتها بأن ذلك سيؤدي إلى إنشقاق كردي عن بنية الدولة التركية ومفاهميها منذ ان تأسست عام 1923. لكن من الواضح ان تسوية القضية الكردية في تركيا باتت أكثر من قضية ملحة لصانع القرار التركي، لا لوقف مسيرة القتل والدم فحسب، بل لتحقيق رؤية تركيا المستقبل،فدون إيجاد حل لهذه القضية لا يمكن تحقيق الأمن والاستقرار والسلام الداخلي في البلاد، وكذلك تحقيق تنمية شاملة ونهوض اقتصادي منشود، ومن جهة ثانية كسب الأكراد في المنطقة الذين يتوزعون بين تركيا وإيران والعراق وسوريا، حيث باتت قضيتهم تحظى باهتمام إقليمي ودولي، والأهم نزع هذه القضية كورقة في الخاصرة التركية قابلة أن تتفجر في هذه اللحظة أو تلك. وفي العمق فان تركيا أمام ما يجري في سوريا تخشى من ولادة إقليم كردي في شمال سوريا يكمل الفدرالية القائمة في كردستان العراق، لتكون خطوة لا رجعة عنها في طريق إقامة دولة كردية مستقلة تقلب الخرائط الجغرافية للدول في منطقة الشرق الأوسط . الثابت ان انخراط الحكومة التركية في مفاوضات مباشرة مع أوجلان دليل على توفر القناعة بأهمية حل هذه القضية سلميا لأسباب داخلية وخارجية،وهي في سعيها هذا تحظى بدعم أمريكي ومساهمة كردية عراقية وتحديدا من زعيم إقليم كردستان العراق مسعود البارزاني إلى درجة ان هناك من يتحدث عن صفقة بين اردوغان والبارزاني بهذا الخصوص، مضمونها اعتراف تركيا بدولة كردية في العراق مقابل دعم الأكراد لسياسة تركيا الإقليمية وتطلعاتها تجاه سوريا والعراق وإيران. يبقى القول، ان السعي إلى حل سياسي شامل يحقق الاعتراف بالهوية الكردية القومية والأمن والاستقرار لتركيا، ينبغي ان لا يكون في إطار الصفقات السياسية بقدر ما يبنغي ان يكون في إطار القرارات التاريخية والخطوات العملية غير مسبوقة، لأنها وحدها الكفيلة بوضع القضية على سكة الحل، لأن دون ذلك يعني البقاء في دوامة النار والدم، خاصة وأن أوجلان لا يثق بالوعود التركية بعد تجربته مع الرئيس التركي الأسبق تورغوت أوزال عندما توسط الرئيس العراقي جلال الطالباني بين الرجلين وأقر أوزال حينها بصيغة الفدرالية لحل القضية الكردية،ولكن سرعان ما توفي الرجل في ظروف غامضة وسط تقارير تقول إنه مات مسموما بعد أسابيع من كشف المحادثات غير المباشرة التي جرت بينه وبين أوجلان. الظروف مختلفة اليوم في كل من أنقرة وإمرالي،اردوغان عبر حزبه الذي يحكم الرئاسات الثلاثة ( البرلمان - الحكومة ndash; الجمهورية ) في وقت بات فيه الجيش يجرجر جنرالاته من أمام القضاء. في المقابل يقود أوجلان من إمرالي حزب العمال الكردستاني سلما وحربا، ولا شيء يدفعه إلى توجيه نداءات مجانية لمقاتليه بالنزول من الجبال وترك السلاح دون تسوية مشرفة لقضيته. وعليه، فان الامتحان المشترك أمام أردوغان وأوجلان هو نزع الألغام التي تعترض تحقيق التسوية السلمية التي يبدو ان أولى الألغام التي تفجرت بوجهها كان اغتيال الناشطات الكرديات الثلاثة في باريس.