شهدت العاصمة الفرنسية باريس عميلة اغتيال سياسي اودت بحياة ثلاثة من الناشطات الكرديات بينهن ساكنة جانسز احدى مؤسسات حزب العمال الكردستاني والقيادية الكردية البارزة. العملية وقعت بشكل احترافي كبير، وجاءت في وقت تقود فيه الحكومة التركية مفاوضات مع الزعيم الكردي عبدالله أوجلان من اجل ايجاد حل للقضية الكردية. وكانت هذه المفاوضات قد بدأت منذ بضعة أسابيع ووصلت لمرحلة متقدمة بزيارة الشخصية القيادية الكردية النائب أحمد ترك لأوجلان في سجن جزيرة quot;ايمراليquot;، حيث جرت مباحثات طالت 7 ساعات في كيفية الحل والخطوات الواجب القيام بها من جانب الحزب الكردستاني والحكومة في أنقرة لاطلاق وتوطيد خطة السلام الدائم.
من خطط ونفذ عملية اغتيال القيادية ساكنة جانسز كان يستهدف بالدرجة الأولى تسديد ضربة قوية لمباحثات السلام والحل مع أوجلان وحزب العمال الكردستاني. والقراءة الأولية تشير الى ضلوع quot;الدولة العميقةquot; في تركيا، والتي تضم قوى قومية متشددة وأوساطا في الجيش وضباط سابقين، اضافة الى مافيات الحرب، التي ستتضرر ماليا واجتماعيا، من انهاء الصراع والاعتراف بوجود الشعب الكردي وضمان حقوقه في البلاد.
هناك صراع محتدم على السلطة بين هذه القوى وبين حزب العدالة والتنمية الحاكم منذ عام 2002. لقد ضرب حزب العدالة والتنمية مراكز السيطرة في الدولة من تلك التي كانت تقف عقبة أمام مشروعه في الاستحواذ على مؤسسات الحكم والسيطرة، وبذلك فقد تم اعتقال المئات من الضباط السابقين في الجيش والاستخبارات والمؤسسة الكمالية العلمانية بتهمة تشكيل تنظيم ( أرغنكون) الهادف للانقلاب على الحزب الاسلامي والحد من تمدده داخل مؤسسات ومرافق الدولة. ومن بين المعتقلين شخصيات لها سطوة كبيرة في الحياة السياسية والأمنية والعسكرية التركية، منها وزير الداخلية الأسبق محمد آغار المتهم بالضلوع في الاشراف على عمليات تصفية مئات اليساريين و الناشطين المدافعين عن حقوق الانسان. اضافة الى اعتقال كل من رئيسي هيئة الاركان السابقين الجنرالين إلكر باشبوغ واسماعيل حقي قره داي، بتهمة التخطيط للقيام بانقلاب عسكري، والرجلان من قادة الجيش التركي الكبار ولديهما انصار اقوياء في الخارج.
الدولة التركية لديها سوابق كبيرة في الاغتيالات السياسية لاسيما اذما تعلق الأمر بمحاربة القضية الكردية والحد من تفاعلها. فقد كانت هناك مجموعات من الاستخبارات التركية تختص بتصفية النشطاء الكرد والسياسيين المعروفين، قتلت مابين أعوام 1990ـ 2005 أكثر من 17000 ناشط وسياسي وصحفي كردي، بينهم البرلماني السابق محمد سنجار والصحفي الكبير موسى عنتر. كما اغتالت نفس هذه المجموعات الصحفي التركي أوغور ممجو والكاتب الأرمني هيرانت دينك بتهمة تهديد وحدة أراضي الدولة التركية والتعاطف مع حزب العمال الكردستاني. وأشارت التحقيقات التي اجرتها السلطات القضائية التركية فيما بعد الى تورط مجموعات الاستخبارات التركية والمراكز القومية المتشددة وتنظيم quot;حزب اللهquot; التركي، الذي أنشأته الاستخبارات العسكرية لمحاربة الحركة الكردية وانصارها، في هذه الجرائم. أي التوليفة التي تٌسمى اصطلاحا في تركيا بquot;الدولة العميقةquot;.
أما التحرك الأكثر قوة لquot;الدولة العميقةquot; ضد التوجه الحكومي بالتفاوض مع حزب العمال الكردستاني لحل القضية الكردية فكان عام 1993 عندما نجحت هذه المجموعات في تخريب عميلة الحوار بين قيادة الحزب والرئيس التركي توركوت أوزال، والتي توسط فيها الرئيس العراقي الحالي جلال الطالباني. واستطاعت هذه القوى تسميم أوزال وقتله، وكذلك تدبير حادثة مقتل قائد القوى البرية التركية الجنرال أشرف بتليس الذي ايدّ اوزال في مساعيه لإيجاد حل سياسي للقضية الكردية، وتعهد باقناع المؤسسة العسكرية بلاجدوى الحرب.
والآن وبعد مواجهات دامية بين حزب العمال الكردستاني والدولة التركية منذ اختطاف زعيم الحزب عبدالله أوجلان عام 1999 وأسره، كلفت الجانبين آلاف القتلى ونزيفا مستمرا في الموارد والامكانات، عادت المباحثات من جديد على أمل ايجاد حل سياسي للقضية، لكن quot;الدولة العميقةquot; كانت لها بالمرصاد، عبر اغتيال شخص القيادية ساكنة جانسز التي تحظى باحترام ومحبة كبيرة لدى الشعب الكردي وقيادات وكوادر حزب العمال الكردستاني لكونها صاحبة تاريخ طويل في النضال والمقاومة في السجون وساحات القتال، وكونها كذلك أول أمرأة في صفوف الحزب الكردستاني، وكانت ادبيات الحزب تقدمها كقدوة ومثال لجميع نساء كردستان.
الحكومة التركية وعلى لسان الناطق بأسمها جميل جيجك، ومن ثم رئيسها رجب طيب أردوغان، اتهمت فور وقوع الجريمة الجانب الكردي بالضلوع فيها، وقالت بانها تأتي quot;نتيجة حسابات داخل حزب العمال الكردستانيquot;!. وهي محاولة لخلق التشويش والنأي بالنفس عن هذه الجريمة وعدم الرغبة في تحمل تبعاتها السياسية الثقيلة. أما حزب العمال الكردستاني فقد اتهم quot;الدولة التركية العميقةquot; بالمسؤولية بهدف تخريب الوصول الى حل سياسي للقضية الكردية، منتقدا موقف الحكومة التركية ومسؤوليها، ومطالبا اياهم بالتحرك ضد القوى العنصرية المعادية لهوية وحقوق الشعب الكردي داخل مؤسسات الدولة. والكردستاني اشار كذلك بان مباحثات الحل والمفاوضات مع اوجلان وقيادات الحزب ستستمر من اجل انهاء النزاع.
السلطات الفرنسية وفي أعلى المستويات استنفرت فور وقوع الجريمة، وتوعدت بفعل كل شيء من اجل الكشف عن هوية المجرمين القتلة. وقد شهدت باريس تظاهرة كبيرة شارك فيها حوالي مائة ألف شخص من الكرد واصدقائهم للتنديد بالجريمة والمطالبة بالكشف عن مرتكبيها، منتقدين سياسة الحكومة التركية المعادية للشعب الكردي ولحركته التحررية. هذا ومن المتوقع ان تصل جثامين النساء الثلاثة الى مدينة دياربكر في كردستان الشمالية حيث ستجري هناك مراسيم وداع جماهيرية حاشدة.
جريمة الاغتيال اثارت ردود فعل غاضبة في كل اجزاء كردستان وفي الخارج، ووحدت الشعب الكردي وقواه السياسية من جديد، وكانت مناسبة لتخطي بعض الخلافات الداخلية، حيث اصدرت كل الأحزاب الكردية بيانات تنديد بالجريمة، كما واصدرت حكومة اقليم كردستان العراق بيانا، طالبت فيه تركيا بالمساهمة في الكشف عن القتلة ومواصلة عملية التفاوض ردا على تلك الجريمة...
التعليقات