غير بعيد عن الحي الذي أقطنه، أقام المسؤولون سابقا شباك تذاكر، بمناسبة مقابلة كروية بين المغرب ومنتخب إفريقي . طيلة خمسة أيام، وأنا أصادف كل صباح طوابير طويلة وعريضة، تزخر أطفالا وشبابا، يصطفون كرؤوس من الأغنام، قصد تحين أسرع فرصة للوصول إلى نقطة البيع. في الطريق، ألاحظ أيضا، جحافل أخرى، تسارع الخطى بكل ما لديها. تحدد، توقيت الافتتاح والإغلاق من 9 إلى 12 والنصف ظهيرة، مدة لم تكف كل يوم، لمص العدد المحتشد، لذلك تتسمر المجموعة الفائضة في أمكنتها، quot;معتصمة وسط ساحة الحريٍر، حتى تحقيق المطالبquot;، مثلما تهكم أحد المارة. مع حلول الليل، يتحول أنصار الموضة الجديدة، أو quot;وطنيي الكرةquot;، إلى لصوص وقطاع طرق، يسرقون هذا ويغتصبون تلك، ينشرون جورا في الأزقة المجاورة، مستعملين مختلف أساليب التعنيف مع السكان... . المهم، مارسوا فوضاهم وتخلفهم، بكل ما للسياق من دلالة.

أول، شيء كان يتبادر إلى ذهني بقوة، وأنا أتملى الجيش العرمرم، ماذا يصنع هؤلاء الشباب، هنا ؟ أظن بأن الفترة، فترة دراسة، بالتالي، يفترض تواجدهم في حجرات الدراسة، وليس التقاتل من أجل مباراة في كرة القدم، لا تسمن ولا تغني، تلوثت بالسياسة ومصالح الساسة. ثم ينساب، تساؤل ثاني : أي مصير ينتظرهم ؟ ونحن نعيش داخل بلد، محكوم فقط بمخطط الولاء أو العائلة أو الصدفة وأحيانا الحظ. لا أحد يفكر من أجل أحد، كل وما ملكت فهلوته. أي، نصيب لهم من المستشفيات والمدارس والأندية الرياضية الحقيقية ومجالات الشغل ؟ إلخ، إلخ ؟ وشتى أنواع حقوق يحتمها مبدأ التمتع بالمواطنة بين أحضان منظومة مجتمعية، تجعلهم يدركون في إطارها بسهولة، أن أصحاب القرار الذين يؤدلجون بشكل فج مباراة كروية، وينفخون فيها حد ملحمة وفتح تاريخيين، يتوخون مجرد تكريس وتأبيد بنية سياسية مختلة أساسا، ولا علاقة لذلك بالتنافس الرياضي الشريف، كما الحال في البلدان المتقدمة، عندما تعكس كرة القدم باعتبارها لبنة من لبنات المخطط الرياضي، درجات حضور السعرات الحرارية داخل أجساد شعوب تتمتع بوفرة في الآدمية والأكل والعناية الطبية والصحية، والأهم، انسجام الرياضي والمشجع، مع وضعهما ومؤسساتهما.
حتما، قاد فراغ المدارس أو تفريغها، إلى تراجع مهول للوعي المتين، الذي يخلق فردا ذكيا، قادرا على استيعاب وجوده والآخرين باستقلالية ذاتية. ويزن كل الموضوعات بميزان العقل، والرؤية التمحيصية التفكيكية، هكذا تقدمت الشعوب.
إذن، تقليد محدث أضحى قاعدة، يريد الجميع اليوم الانتساب إليه، بل التفنن في مهارات سلوكية كي يتم الولوج إلى الحقل بامتياز، بحيث يلزم شرعا مع كل كرة، أن تتحول المدينة إلى ساحة لقيامة الجنون، صخب وضجر وتفاهة، يرسمون صور الخواء بجميع الإشارات، ولا يدل الأمر على فرحة بل نكسة تؤكد وجود خلل فكري وإنساني فظيع. مآل، يلقي باللوم على من يكدسون حطب الوقود.
أظن، ما قيمة، أن يفوز المغرب، ربما بكأس العالم ؟؟؟ وقد صار شعبه على وضع من الببغاوية والاستجابة الميكانيكية، يخصب ضمنا التنميط الواحدي، وكل مولدات ونتائج الفكر الفاشي، الذي يغتال مطلقا كينونة الفرد لصالح الجمهرة : إذن، ينبغي عليك أن تتدافع كما يتدافع الآخرون دون تأمل ولا تبصر.
في حدود ما أعرفه، لقد ظفرت مصر ببطولة إفريقيا للأمم، لثلاث مرات. حقا، منتخبها بمدرب وطني ولاعبين محليين، ومواجهة فرق إفريقية عريقة، أمتع أداة ونتيجة، وقدم روحا قومية عالية. كان ديكتاتور مصر المخلوع، ينسب ذلك إلى إنجاز من إنجازاته، وتنسج ماكينته الإعلامية. معلقات مدحية لا نهائية. يستقبل أعضاء الفريق المصري في منتجعه، وينبغي أن تؤخذ له صورة وهم يقدمون له الكأس والتحية، ثم قد يجتهد بعضهم أكثر فيرتمي على رأسه تقبيلا. أثناء، مباراة الجزائر الشهيرة، شاهدنا الابن البار جمال مبارك في المنصة، يتحرك بكل quot;حواسهquot; وquot;مشاعرهquot; مع تدحرج الكرة، بمعنى إني منكم ولكم ونفسي عليكم، فأقبلوني وريثا، يرحمكم الله. ألقى النظام الفاشل، بكل ثقله على فتوحات الكرة، بينما البلد آيل للسقوط والمشاكل تتسارع من كل حدب وصوب. بدت الكرة، مثل سراب وسط صحراء قاحلة، و أفيونها، صرخة هستيرية من قبل شعب حزين.
يكمن الفرق بين الدولة الديمقراطية، التي هي بالضرورة متقدمة، والأخرى الفاسدة، أن الرياضة في الأولى مكون من مكونات المشروع المجتمعي، تتوخى بناء الجسد والعقل والقيم، ولا أحد منا بوسعه حاليا الإنكار، بأن كرة القدم أضحت مؤسسة اقتصادية قائمة بذاتها، توفر من جهة موارد مهمة للدخل الوطني، وتساهم في ترشيد التربية المدنية والتأهيل الاجتماعي، وإن كانت الأرقام الفلكية التي نسمعها حاليا بخصوص اللعبة وأهلها كما في إسبانيا على الخصوص مع الثنائي الأخطبوطي برشلونة وريال مدريد، والإفراط الأسطوري في تقديس اللاعبين، أفقد كرة القدم طابعها الإنساني الفرجوي، وأدخلها إلى براثن المنظومة الإمبريالية المثخنة بالاستعراضية. أما، عندنا فالرياضة لازالت غائبة عن مفهوم المخططات والبرامج، ومع حدوث شيء منها، فالبنية التحتية فقيرة جدا، وما صلح منها يأكله الترهل. لذلك، فشباب الكرة الذي سطا وبغى قصد الوصول إلى الملعب، سيضمر أيضا كل أنواع العنف، لأن بلده حرمه من أبسط حقوقه، في فضاءات رياضية مناسبة، تعمل باستمرار على تهذيب طاقته الفيزيائية والروحية، وتوظيفهما جهة التنمية المجتمعية. يجدر الاعتراف، بأن الموهبة وحدها ممهورة بالعزيمة من صنعت أبطالا في المغرب، بعد ذلك، يرتمي عليهم المسؤولون ويوظفونهم بطريقة كاريكاتورية، لأغراضهم الدعائية.
إن الحشود التي ملأت الشوارع اضطرابات وفوضى، بدواعي الابتهاج الكروي، قد سنت قبل ذلك، قانونا للخروج والهتاف، في كل مناسبة وغيرها، كي تخبر العالم عبر الإعلام الرسمي، أننا سعداء جدا، ولا يخصنا سوى النظر كل صباح في وجوهنا العزيزة، كي نكتفي بأنفسنا. ثقافة شعبوية مائعة تخلط بين كل شيء من أجل لاشيء، من الكرة إلى ركائز الأمة، فالانتخابات، والسلسة حلقاتها لا تنتهي. رأيناهم حين تعديل الدستور، وسنراهم في كل مناسبة، ثم جراء كل مباراة مقبلة، حتى ولو كان الخصم نكرة على منوال تنزانيا.
فاجأنا أحد المتضررين بتأويل فونيتيكي مدهش: quot;طنزانيا من الطنز : تعني بالنكتة المراكشية، الاستغباء أو الاستخفاف بالعقول. فباراكا، من طنزانيا، أي الاحتقارquot;. إن فيروس كرنفالات الكرة، بطريقة تختزل التاريخ في جلدة منفوخة بالبرد، لا يمكنها قطعا أن تغرس فعلا الفرحة، في قلب أناس تنعدم لديهم أدنى درجات الكرامة،ويعيشون الحرمان و الفقر. مفارقات سوريالية، تجلت بوضوح قبل وبعد إجراء المباراة. فالمشجعون المبتهجون، ظلت جيوبهم مقفرة، يفترشون باستفزاز شوارع مراكش، ويتسولون من المارة، ما يسد رمقهم، وبعد حين يسرقون. لاشك، أن الوطنية والمواطنة، صنوان لا ينفصلان. إذا قيل، في أدبيات الاستغلال، الإنسان الجائع ليس حرا، فقد اكتشفنا، مع هذا المواطن الكروي، مفعولات أنماط الوعي الزائف، قياسا إلى حقل اجتماعي، يبدي أكثر من أي وقت مضى، استعداده لتقبل أسباب الغباء، في مختلف تمثلاته، أبرزها تكريس سلوكات الشوفينية والتعصب الأعمى. ليس بالضرورة، أن يتحول المغربي إلى مهرج، يفرغ مكبوتاته وسط الشارع العمومي، متجاوزا حقه وهو يعتدي على حرية الآخرين بالصراخ والزعيق والعبث بالممتلكات العمومية، محتميا بيافطة العلم الوطني وتحقيق الانتصار. أي انتصار، نتوهم ؟ ونحن لازالت كل الأرقام والمؤشرات الاقتصادية والاجتماعية والمعرفية، تضعنا في أدنى مراتب التنمية، وتلزمنا مباريات حقيقية، بهدف تحقيق انتصارات جوهرية على الفساد والأمية والتهميش والفقر والإجهاز على الحقوق وإهدار الكرامة وحروب تكريس الدونية... . هزائم نعيشها بالجملة تستحق طبعا، أن نشمر على سواعدنا ونكدس عضلات أطرافنا.
إذا كان المدبرون للشأن، يلهثون بكل الوسائل من أجل ترميز البلاهة وبنينة الفكر الشمولي، فإن سعيهم لا يخلو من مغامرات غير محسوبة، ستنزلق بالمجتمع نحو فراغ فكري مهول، يأخذ مع توالي السنين صيغة كتلة هامدة من الجنون، تنقلب بالسوء على أصحابها وأعدائها. فما أحوجنا إلى استعادة المرجعيات الأنوارية، التي تجعل الفرد قادرا بإرادته على التخلص من كل أنواع الاستيلاب. ستكون فعلا، الكرة إلى جانب كل المنظومة الرياضية نداء للوطن، لما ترتبط بمنظور تربوي متكامل الأبعاد واضح المعالم، غير تضليلي، فالتضليل كما قال المرحوم عمر بن جلون أخطر أنواع القمع. تحول، يجعل منها وسيلة للرقي بالمواطن وانتشاله مثلا من جحيم المخدرات، التي تنخر شباب البلد، في واضحة النهار، وأمام أعين مسؤوليه.
أخيرا، أريد التنبيه إلى ملاحظة، تختزل ضمنيا في صورة واحدة، كل ما أتيت على ذكره. حينما اشتدت خرجات حركة 20 فبراير، تعبأت الدولة بجميع أجهزتها، لضربها والقضاء عليها. ولعل أغرب ما أنتجه مكر حربها، أن التلفيزيون، بدأ يدرج صوتا وصورة، quot;وقفات احتجاجيةquot; لهيئات التجار، تنديدا بمسيرات 20 فبراير،التي quot;أضرت بمصالحهم الاقتصاديةquot;، وهي تخنق المرور وتغلق المنافذ الرئيسية للشوارع...، إلخ !! حاليا، في مراكش، كلما أجريت مقابلة لكرة قدم، إلا وحلت على المدينة لعنة إضافية، فهل يحق لنا بنفس الخطاب الذي وظفته الدولة، أن نبدي تذمرنا من الأمر؟