يحار المرء في كتابة كلمات عن الدكتور عبد الجبار الرفاعي، ويأخذك هلع السطر الأول، إذ تتوقف مخافة ألا تدلي بشيء في حق علم من أعلام الثقافة والفكر في وطننا العربي والإسلامي، وبذلك، ينهدم كل ما سيأتي بعده من حديث. لكن أعماله وأنشطته، فضلا عن قيمه وأخلاقه، تجعله يستحق امتناننا.

إن جملة القضايا التي طرحها وما يزال في دوريته المشهورة: quot;قضايا إسلامية معاصرةquot;، أسهمت في تقديم مواد معرفية متنوعة، لفائدة كل مهتم وباحث في قضايا الفكر الديني وإشكالياته، واتسم تناولها للمواضيع بموضوعية وتجرد، تعرض الفكرة ونقيضها، بعيدا عن أي نزوع طائفي أو إيديولوجي، لقد ساهم الرفاعي بمجهوده واجتهاده الخاص، في نقل أشواق وهموم مشتركة بين باحثين ومهتمين بالشأن الديني من كلا الفضائين الشيعي والسني، لقد فتح ثقوبا ومسارب للإطلالة على قضايا دينية مرتبطة بالسياق السوسيوتاريخي للفضاء quot;الفارسيquot;، يجهلها الإنسان العربي، لأسباب مختلفة ومتشابكة، ومعلوم أن الإنسان عدو لما يجهله، وهذا القول يصدق على عالمنا العربي، الذي لم يستطع الانفتاح على الثقافات الأخرى، ناهيك عن استيعابها. وتلك مشكلة المجتمعات التي ترزح تحت التخلف، وتهاب التجديد والخروج عن النسق، وكذا الخروج عن الطائفة والمذهب. لاشك أن الخط الذي رسمه الرفاعي لمجلته، قد ساهم في توسيع شبكة قرائها، مما جعلها أقرب مطبوعة قادمة من الشرق إلى المغرب؛ ليس لجودة شكلها أو إخراجها الفني، فثمة مطبوعات أفضل بكثير على هذا المستوى، وإنما لكون صاحبها رفع لواء الفحص والتمحيص النقديين، والسؤال، والشك العلمي، والكشف، والاجتهاد، والتجديد الحقيقي لا الزائف، وتطوير الفكر، وإصلاح مناهج التفكير الديني ... وغيرها من عناوين النهوض والتقدم، لما نقول إن صاحبها خرج عن المألوف والمعهود، فلأنه لم يسوّق من خلال قضاياه لليقين البارد، وتمجيد الاصنام البشرية.
عرفنا المطبوعة قبل معرفة صاحبها بصفة شخصية، لأن هذه المجلة تعد عملا استثنائيا وجهدا جبارا قام به الرفاعي، بوضعه الموروث الديني على مبضع النقد، فمضامين المجلة إن تحيزت، فإنها تتحيز للإنسان كمبتدأ ومنتهى، وكذا النقد المزدوج؛ نقد التراث ونقد الحداثة، أما بقية المطبوعات في الساحة العربية بصفة عامة والساحة المغربية بصفة خاصة، فإما أنها متحيزة لاتجاه التحرر من التراث، أو اتجاه التحرر عن التراث.
قضايا الرفاعي تجاوزت هذه الثنائية، وتخطت التحيزات الطائفية، والمذهبية الجغرافية، فثمة رأي ورأي آخر، وكذا نقد ونقد مضاد، وكدليل على ممارسة هذا النقد على الذات أولا، خصصت المجلة زاوية خاصة لنقد ما كتب في عددها السابق، تحت عنوان: quot;نقد العدد الماضيquot;، وفتحت ورشا لقرائها في ربوع الوطن العربي، لتقييم وتقويم محتويات أعدادها شكلا ومضمونا. الرفاعي حينما يتحدث عن النقد أو التجديد فهو لا يكتب عنه فقط، وإنما يمارسه ويجسده في واقعه. لذلك نتمنى منه أن يبقى وفيا لهذا الخط الانساني الذي يؤسس لبناء فكري متين يجمع ولا يفرق، يحب ولا يكره، يسامح ولا يتعصب.
ومن ثم، فالمجلة ما كانت لترضى حراس متاحف المفاهيم والمقولات المحنطة، وما كانت لترضى أيضا بعض من حمل لواء الحداثة والتحديث؛ فالفريق الاول لم يرضه ذلك النزوع نحو نقد الموروث الديني، والفريق الثاني لم يرضه ذلك النزوع نحو أنسنة الدين، أو قراءته قراءة إنسانية.
كما نتمنى أن تظل صفحات المجلة مفتوحة لجميع الكتاب، مهما كان عرقهم أو دينهم أو لغاتهم، وأن تظل عينها على فتوحات المعرفة الحديثة، رصدا واستيعابا وتقويما...في مقابل العمل على بعث بعض الاشراقات الانسانية من التراث الديني، كتابيا كان او غيره.
تجدر الاشارة إلى أن مجلة quot;قضايا إسلامية معاصرةquot; تعد ndash; بنظري - أول مطبوعة في منطقتنا العربية تناولت بتفصيل وتحليل لموضوعات علم الكلام الجديد وفلسفة الدين، وهرمنيوطيقيا الكتاب والسنة، والتعددية الدينية، والمعنوية، والتجربة الدينية، ورهانات الدين والحداثة... وقد تجسدت في سلاسل كتب أصدرها مركز دراسات فلسفة الدين ببغداد بالتعاون مع دار الهادي في بيروت. ويبقى المطلوب/التحدي المزيد من الجرأة في اجتراح مواضيع أخرى، لنفض غبار الكسل والجمود الذي تشهده كثير من الدوائر العلمية والجامعية، وإعمال العقل في كثير من المسلمات التي لم تعد صالحة، ونقد بعض المشروعات الزائفة والوهمية التي عمرت ردحا من الزمن، وشكلت عقليات لا تومن بالحوار والتعايش.
الحديث عن شخصية عبد الجبار الرفاعي يقتضي تذكر اللقاء الاول والمكان الأول، لقد كان اللقاء الاول في مدينة الدار البيضاء في داخل أروقة مكتبة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية، بمناسبة انعقاد ندوة بعنوان كيف يدرس الدين اليوم؟ عام 2003م، كنت أتصفح برنامج الندوة، وإذا باسم صاحب قضايا إسلامية معاصرة مشاركا فيها، وكان كل المشاركين يتواجدون بالقاعة، لكن صورة هذا الرجل لا أعرفها، وقد شارك بمداخلة تتحدث عن تجربة الحوزة في تعليم الدين وتطور نظام التعليم الديني وانبثاق السؤال اللاهوتي الجديد فيها.
لما انتهت فعاليات الندوة، كان الموعد مع الرفاعي الذي سعد بلقائنا، وتفاجأ من متابعتنا لمحاور المجلة وأعدادها، وكنت أسأله شخصيا عن الأسماء التي كانت تكتب في المجلة، على سبيل المثال: داريوش شايغان، عبد الكريم سروش، محمد مجتهد شبشتري، مصطفى ملكيان، سرمد الطائي، غالب الشابندر، إبراهيم عبادي، ماجد الغرباوي، وغيرهم، فبدأ يحدثنا دون أن تشعر بأنه يمارس وصاية أو أستاذية في حديثه، تتخلله ابتسامة، تشعرك كأنك التقتيه أكثر من مناسبة.
إن قضايا النقد والفكر والثقافة والانفتاح والحوار واصلاح مناهج التفكير الديني، والانتقال من الايديولوجيا الدينية إلى المعرفة الدينية ... شكلت أهم نقط الالتقاء والاشتراك مع أستاذنا الرفاعي، فضلا عن الأشواق الانسانية التواقة للحرية والحداثة والديمقراطية وحقوق الانسان.
يمكن القول أن quot;خط الرفاعيquot; من خلال قضاياه يتمحور حول الانسان، فهو أولى الأوليات، وأن الدائرة الطائفية دائرة ضيقة الأفق، أما الدائرة الإنسانية أفقها مفتوح...
خلاصة القول: إن quot;إسلامquot; الرفاعي ذو أفق إنساني.
وبكلمة واحدة، خط الرفاعي خط عرفاني عالمي إنساني.
وختاما أقول لأستاذنا: quot;ارفع كلماتك، ولا ترفع صوتك. فما يُنبت الأزهار هو المطر، وليس الرعدquot; ، مولانا جلال الدين الرومي.