ان الخطوة الاولى للوقوف امام العنف تبدأ بوعينا بخطورة ثقافة العنف والتربة التي ينبت فيها. وهو ما لا يمكن فهمه وتفسيره الا بإدراكنا ان ثقافة العنف السائدة تعطيه مساحة اكبر. واذا كانت ثقافة العنف تجعل منه الانسان القوي، فان التسامح يقدم بوصفه ضعف الانسان الذي تعوزه الشجاعة لأن يكون متسامحا.
ولكن ماذا يعني التسامح، وما هي اهدافه وغاياته وحدوده؟
يعني التسامح لغويا اللين والتساهل مع الآخر والعفو عن إساءته. وهو عكس التشدد والتشنج والتصلب في علاقة الانسان مع الآخر إذا ما صدر عنه ما يسيء اليه قولا او فعلا. وإذا قلنا ان التسامح يعني التساهل فليس معنى ذلك الضعف والجبن والتخاذل وانما منتهى القوة، لأنه من أسمي فضائل المجتمع المدني الذي يقوم على التعدد والتنوع والاختلاف، والذي يتضمن طاقة كبيرة من اتساع الصدر وضبط النفس مما يسمح بسيطرة العقل والحلم على الجهل والحماقة
يقول غولدمبرغ quot; من الافضل ان تكون متسامحا على ان لا تكونquot;. فالتسامح يقيم علاقة ايجابية مع الآخر ويدفع المرء الى ان يكون حضاريا في مواجهة اخطاء الاخرين وزلاتهم، وبصورة خاصة حين يكون عفوا عند المقدرة او اشعال شمعة من المحبة والسلام في قلب من يخطئ التعامل مع الاخر ويخرج عما يتعارف عليه المجتمع.
وتكمن قوة التسامح في مبدأ ان تعيش وان تترك الاخر يعيش حياته بسلام. وبهذا يصبح التسامح طريقا للتعايش السلمي مع الآخرين واحترامهم. كما تظهر قوة التسامح عادة في ردود الفعل ضد السلوك العدواني، الذي ينتج عن تصريحات او تعبيرات او مواقف غير مقبولة واتخاذ موقف متسامح منهاولهذا فالتسامح يتطلب دوما انفتاحا فكريا على الآخر، هدفه نشدان الحقيقة كفضيلة أخلاقية ينبغي زرعها واحاطتها بالرعاية والعناية حتى تنمو وتزدهر. وهناك نقطتان رئيستان تشيران الى معنى التسامح بصورة عامة هما: أولا، انه يقوم على تفهم وأدراك موجه من الضمير لاحترام الرأي الأخر وفهمه. وثانيا، انه يقوم على مبادئ وقوانين المجتمع المدني التي تضمن حقوق الانسان
ومن اجل جعل التسامح ممارسة عملية فانه يحتاج الى درجة معينة من الانفتاح وسعة الصدر وقبول الآخر والتحاور معه. ففي المجتمع المدني الذي يتصف بالتعدد والتنوع والاختلاف، تتكون هوية وطنية جمعية تتجاوز التعصب العنصري والديني والطائفي والثقافي، ولكن بشروط عدة يجب توفرها، منها ان يكون الانسان ملاما على سلوك مستنكر او غير مرغوب فيه، وان لا يسمح للملام بالاستنكار او ان يعتبر ما قام به سلوكا طبيعيا، وان لا يخلط بين السلوك الملام عليه والاستنكار. والواقع انه يجب ان لا يكون التسامح واجبا، وانما سلوكا طبيعيا، لان على المرء ان يميز بين التسامح الايجابي والتسامح السلبي. كما ان هناك حدودا للتسامح، فمتى نتسامح ومتى نوقف الاخر المعتدي عند حدود يجب ان لا يتخطاها؟ .
إن حدود التسامح تبدأ عندما يكون القانون قويا ومُحترما ومطبقا، ويكون الأفراد متحررين من هاجس الخوف والقهر والاستغلال. ولذلك تصبح له قوة نسبية وقيمة اجتماعية ndash; اخلاقية في المجتمع المدني الذي يحترم ويصون حقوق المواطنين. كما ان هنالك تسامحا فعالا وآخر سالبا، وعلى المرء ان يميز بين التسامح كفضيلة والتسامح كقهر وإذلال واستغلال للحرية باسم التحرر من المهانة. ويصل التسامح الى قمته العليا عن طريق قوته النسبية، ولكن على المرء ان يميز في ذات الوقت، بين من يقول quot; انا متسامح وبين من يقول quot; سوف احاول ان اكون متسامحاquot;.
فالاول هو قول فعال ويفترض القوة أولا، والثاني يقترب من ان يكون متسامحا. وأفضل اشكال التسامح ما يتم عن طريق التفاهم والحوار المتبادل واتخاذ موقف مرهف الشعور من الاخر. وهو موقف يتطلب معرفة الاخر الذي ينبغي احترامه، وكذلك ارادة واعية لفهم وتحديد موقف الاخر منه الذي لا يمكن قياسه بالملاحظة والكلام فحسب، بل عن طريق العلاقة الحوارية الجادة المتبادلة بين الطرفين. كما يتطلب الاحترام، قناعة باعتباره معنى محدد على المرء ان يفهم ويستوعب تعقيداته.
والحال لا يمكن توصيف التسامح بالكلمات، وانما يوصف تبعا للمواقف والظروف الموضوعية والذاتية المحيطة به، التي تحتاج ايضا الى فهم وتفسير لسيرورة التعبير وديناميكية التفاهم المتبادل، اي محاولة تطوير الاحترام وتبادله بين الطرفين.
أخيرا، إن العنف بأشكاله وأساليبه وأهدافه هو من أخطر الظواهر الاجتماعية السلبية التي تسود العالم شرقا وغربا، التي تنشأ بفعل غياب الوعي الاجتماعي والسلوك العقلاني الرشيد وفقدان الحرية والعدالة وعدم احترام حقوق الانسان، التي هي المبادئ الأساسية لدولة القانون والمجتمع المدني، التي تقوم على الحرية والتعددية والاعتراف بالآخر المختلف.
التعليقات