بلورة المشروع
قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: (وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هنّ أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد) 25.
لا يوجد مسلم لا يعرف شيئا ـ وإن كان يسيرا ــ عن قصة قوم لوط، ولا أجد ضرورة للحديث عن جوهر القصة بحدثها المأساوي الأقصى، ولكن الأمر الذي قد يستغربه مسلم أو حتى غير مسلم، بل كل صاحب ذوق سليم، أن يكون نبي الله لوط عليه السلام قد عرض (أعجاز / أدبار) بناته على قومه عوضا عما أبتلوا به من مرض شنيع !
هذا الرأي نقرأه عند بعض الفقهاء المسلمين والمفسرين المسلمين مستفيدن ذلك من الآية الكريمة التي صدَّرْتُ بها الكلام.
يقول بعض الفقهاء: [ وكذلك قالوا في قوله تعالى: هؤلاء بناتي هُنَّ أطهر لكم...)...القول يقتضي أن في بناته المعنى المطلوب من الذّكران...]، اي إن لوط عليه السلام هنا يعرض (أعجاز) بناته كعوض عن أعجاز المِثْل بالنسبة للمخاطَبين، وهم رجال قوم لوط !!
يوضح الفقيه المذكور هذا الرأي بقوله نقلا عن القائلين به: (... لا يجوز أن يدعو إلى التعوّض عن الذّكران بالازواج إلاّ وقد أباح منهنّ الوطء مثل ما يُلتمَس من الذّكران) 26
ينتصر بعضهم لهذا التفسير بروايات سنية وشيعية، ومن الروايات ا لشيعية ما جاء في تفسير العياشي: [ عن الحسين بن علي بن يقطين، قال: سألت أبا الحسن عن إتيان الرجل المرأة من خلفها؟ قال: أحلّتها آية من كتاب الله قول لوط: (هؤلاء بناتي هنّ أطهر لكم) وقد علم أنّهم ليس الفرج يريدون ]27،وقد جاء مثيل ذلك في التراث السني، ولك أن تراجع كتاب (الدر المنثور) للسيوطي في تفسير قوله تعالى: (... فأتوا نساءكم أنّى شئتم)، ففيه الكم الزائد عن الحاجة روائيا مزعوما عن النبي الكريم.
الجزء الأول |
وقبل أن أنتقل إلى صلب الموضوع أكثر، وبتفصيل أوفى، أحب أن أقول إ ن رواية العياشي في تفسير هذه الآية الكريمة ضعيفة، فهي أولا مرسلة، وثانيا إن تفسير العياشي أصلا قد اختصرت مسانيده من قبل أحد نسّاخه، هذا وهناك رواية أخرى للعياشي نفسه، يذكر فيها إن نبي الله لوط في هذه الآية عرض (عليهم التزويج) 28، والتزويج عرفا ينصرف فيما ينصرف إليه إلى عملية النكاح من المكان الطبيعي،أي مكان الحرث، وله مؤيدات من الدر المنثور أيضا، هذا وفي تصوري إن لوط لم يتحدث مع قومه حتى تزويجا كما سأبين في السطور التالية،و إنما كان في معرض بيان رائع عن السُّنة الطبيعية في النكاح، فكلامه كان بيانا وليس تأسيسا في حاق العناصر المكونة لهذه المعادلة، أي بناته من جهة وقومه من جهة أخرى والعلقة الزوجية التي أرادها بديلا من جهة ثالثة.
حول بنات لوط
بنات لوط في الآية الكريمة كما يقول بعض المفسرين هُنَّ نساء قومه وليس بناته فعلا، ففي مجمع البيان نقرأ في تفسير هذه الآية الكريمة: (... قيل: أراد بناته لصلبه عن قتادة،وقيل: أراد النساء من أمته لأنهن كالبنات له، فإن كل نبي أبو أمته...) 29.
إنّ السياق (بناتي) لا يساعد على هذا الرأي، ثم هؤلاء قد هجموا على بيته حيث هناك يتواجد ضيفه المستهدف، وفي بيته بناته وليس نساءهم، وعليه يبدو إن: (بناتي) ينصرف بشكل أقوى إلى بناته حقا، وليس إشارة إلى نساء قبيلته أو قريته، وممّا يؤيد ذلك أيضا قولهم للوط نفسه: (قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنّك لتعلم ما نريد) 30، حيث يُستشعر أن المراد من بناته ليس نساء القبيلة، بل بناته فعلا.
إن لحن الآية الكريمة يفيد إن الذين جاءوا (يهرعون) جماعة، فيما عدد بنات لوط كما قيل في التوراة إثنتان، فكيف يستقيم مثل هذا العرض العوضي؟ ولكن بعضهم يستبعد ما جاء في التوراة، ورغم ذلك يبقى ما يُشعر إن هناك مفارقة عددية على طرفي المعادلة العوضية البائسة، إذ يستفاد من سياقات القصة إن قوم لوط إبتلوا جميعا بهذا المرض المشين، وإن الذين جاءوا يهرعون جماعة ليست بالقليلة، إذ تعبير القرآن: (جاءه قومُه) وليس (من قومه)، كذلك من لغة التهديد وحيرة لوط وتمنيه أن يظفر بالقوة التي تمنعهم وتصدهم وتخلصه من نتائج هذا الهجوم المباغت!
توضيح مهم
الغريب هناك من يرى أنَّ لوطاً أضطر لذلك كي يتخلص من الخزي والعار بين يدي ضيفه، وكأنه لا يبالي بخلقِ خزيٍّ وعار تاريخيين بحق نفسه وعقيدة النبوة ذاتها !! إضافة إلى هذا الفهم الخاطيء، هناك من التبس عليه أفعل التفضيل (أطهر...)،يقول القرطبي: [ هنّ اطهر لكم) ابتدا وخبر، أي أزوجكموهن) فهو أطهر لكم ممّا تريدون، أي أحلّ...]31.
إن هذا التفسير مريح للضمير والوجدان وينسجم مع أخلاق النبوة الكريمة، فهو عرض عليهم الزواج من (بناته)، والزواج يتضمن عرفا النكاح الطبيعي، أي ممارسة الإيلاج من مكان الإنبات على حد تفسير العلامة الكبير سيد قطب، ولكن هنا نقطة حساسة يجب معالجتها، وهي موضوعة (أفعل) التفضيل كما أشرت سابقا، فإن ما جاء في الآية الكريمة: (هنّ اطهر لكم) لا يفيد التفاضل بين عادة بني لوط وبين الزواج الطبيعي كما يتوهم الفهم الأولي للآية، إنما (أطهر) هنا على وزان (أكبر) في قولنا: (الله أكبر) فيما لا كبير مع الله عزّ وجل.
فالطهر هنا إمضاء نهائي وحاسم للزواج بأنه السنة الطبيعية، الزواج من الانثى بطبيعة الحال.
منهج تأويلي جميل
هناك تفسير في غاية الصفاقة والشناعة، حيث يرى صاحبه إن قوله تعالى: (هُنَّ أطهر لكم) ينصرف إلى (أدبار بناته) إي بنات لوط، فقد جاء في تفسير الصافي: (قيل:يعني أدبارهنّ)32، وهذا التفسير مناف لسياق الآية،ولكنه كما يبدو يشكل اسقاطا لضمير قائله، ومن الضروري أن أبين، أنه تفسير ينقله الصافي ولا يتبنّاه، التفسير جاء نتيجة عقم واضح على صعيد الفهم النحوي للغة، ولا يمت بصلة إلى منهج التأويل، ويتعارض بشكل صار خ مع نظام الآية الواضح (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم...).
هناك تفسير جميل للعملية كلها، حيث يرى صاحبه أن نبي الله لوط في هذا الكلام كان يريد أن يعبِّر عن امتعاضه من هذه العملية، وإنَّ العرض مجرَّد تعبير رمزي عن ذلك، ففي أنوار التنزيل:(... دعاهم إليهن إظهارا لشدة أمتعاضه من ذلك، كي يرّقوا له)33
هذا التفسير الرمزي يُظهر حاجتنا إلى منهج التاويل، والتأويل ليس ضربا من الخيالات والابتهالات كما يتصور البعض، بل هو في أحيان كثيرة أصابة للحقيقة بدرجة أكثر من التفسير بالوضع اللغوي المباشر، كما أنه طريقة مثلى للتخلص من الكثير من مشاكل النصوص الكبيرة، فضلا عن فوائد اخرى لا مجال للحديث عنها هنا.
إستقراب من خارج الآية
يقرّب هؤلاء المفسرون والفقهاء رأيهم هذا استمزاجا بقوله تعالى: (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم) حيث يرون أنه تشريع لحلية نكاح المرأة دبرا، وهو رأي لا تسعفه اللغة بقوة، ولكن مع كل ذلك، تبقى عملية المقايضة التي يعرضها أصحاب هذا التفسير والتي تتم بموجبها استبدال أعجاز الرجال باعجاز النساء،والعارض هو نبي من أنبياء الله، والمعروض هو بنات النبي، و المعروض عليهم هم سوقة وسفلة البشرية، إنما يشكل كارثة أخلاقية بحق النبوة ورسالتها، كما مما لا شك فيه لا ملازمة بالضرورة بين الحلِّية المزعومة والعرض المذكور، فضلا عن أن تلك الحلية هي محل نظر كما سوف أبين إن شاء الله في حديثي عن هذه الآية في فرصة سانحة.
تقول بعض التفاسير إن نبي الله لوط أراد بذلك أن يدفع الاسوء بالسيء، وهو كلام لا دليل عليه، ويحتاج إلى إثبات
ولم يعرض حتى التزويج
إن نبي الله لوط أراد أن يبين لقومه إن هذه القبيحة التي ابتلوا بها إنما هي حرام وتخالف سنن الطبيعة، وإن البديل الحقيقي هو الزواج، ولم يكن في سياق عرض عوضي بتلك المعادلة التي يصورها لنا بعض المفسرين وبعض الفقهاء، فالعرض لم يكن مطروحا بالذات بل هو مطروح لما بعده من معنى وتصور، إشارة إلى سنة الله في الزواج، بدون إشارة إلى تلك العملية التي كانت مثار خلافه وإياهم، أي من غير تفصيل في طرائق النكاح وأساليبه وأمكنته وأزمنته وشروطه.
إن نبي الله لوط لم يعرض بناته على (قومه) للزواج، كيف يتم هذا العرض مع هذه المفارقة العددية بين طرفي المعادلة، وذلك حتى لو قلنا أن الذين جاؤوا (يهرعون) قلة، فإن المفارقة العددية تبقى موجودة بقرينة (جاء قومه)،وقرائن أخرى سبق أنْ ذكرتها، وإنما نبي الله لوط كان في معرض بيان مفهوم، بيان حقيقة كونية، وليس تأسيس نكاح فعلي، وهنا تبرز القراءة التأويلية مرّة أخرى كمنهج فني رائع، وهو لأقدر على تصوير الحقيقة من التفسير بالوضع الحرفي الجامد.
المصادر
(1) البقرة 222/ 223.
(2) معاني القرآن، للفراء، انتشارات ناصر خسرو، قم، الطبعة الاولى، بلا، الجزء الرابع ص274.
(3) هود آية 78.
(4) الينابيع الفقهية، اعداد علي اصغر مرواريد،مؤسسة فقه الشيعة، الدار الاسلامية، الجزء 18، كتاب الانتصار للشريف الرضي، ص 67.
(5) تفسيرالعياشي، منشورات دار الاعلمي، بيروت ـ لبنان، الطبعة الاولى، سنة 1991، المجلد الثاني، ص 166.
(6) نفسه ص 166.
(7) مجمع البيان في تفسير القرآن، للطبرسي، منشورات ناصر خس) الأية 79.
(9) تفسير القرطبي، مراجعة دكتور محمد ابراهيم الحفناوي،خرج احاديثه الدكتور محمود حامد عثمان، دار الحديث، القاهرة، 2002،الجزء الخامس، ص 75
(10) تفسير كنز الدقائق وبحر الغرائب،الشيخ محمد بن محمد رضا القمي المهشدي، تحقيق حسين دركاهي، مؤسسة الطبع والنشر، طهران ـ إيران، الطبعة الاولى، الجزء السادس، ص 207.
(11) نفسه ص 201.
يليه /النكاح الدبري في الروايات السنية
التعليقات