quot;ميشيل عفلق وساطع الحصري وامثالهما صححوا مسار الثقافة العربية التي حرفها جيل طه حسين المتغربquot;، بدء ظننت ان هذا الكلام مزحة، لكن قسمات وجه محاوري تشير الى منتهى الجدية.
كلام صادم، لم افكر في الرد عليه، ماذا يمكن القول لرجل حمل الثقافة القومية كعقيدة نصف قرن؟. اكتفيت بالتعبير عن استغرابي من كلامه، واخبرته بأن طه حسين اليوم هو الحاضر وغاب من تحدث عنهم.
ان تأثيرات القومية في الثقافة العربية لم تكن تصحيح مسار، بل انتكاسة خلقت تدهورا انعكس على كل واقعنا المعاصر. وللحديث عن هذا الموضوع اطار اخر، ليس المقال بصدده الان. المثير في الموضوع ليس كلام الرجل، بل استغرابي.
ان هذا الخطاب غاب فعليا عن الساحة الثقافية العراقية. المقولات والمواقف والتصورات الراهنة لا تحتمل وجود تقييما للتاريخ انطلاقا من نافذة القومية الضيقة. وهذا لم يأت فقط بفعل التغيير الحاصل منذ 2003، بل له خلفيات واسبابه وبيئته العراقية الخاصة. النخبة القومية ظلت دائما محدودة التأثير اذا ما قورنت بالمثقف اليساري المسيطر على المشهد الثقافي العراقي منذ الستينات. وخلال العقد الاخير، تقوض حتى ذلك التأثير المحدود. الا ان المتغير لا يقتصر على الوسط الثقافي.
تعرضت القومية في العالم العربي الى ضربات موجعة اثر احتلال الكويت، وما تلا ذلك من مواقف وردات فعل وقطائع سياسية بين الدول، غير انها لم تؤثر كثيرا في اغلب الشعوب العربية باستثناء الشعب الكويتي وبعض الاوساط الخليجية. وتبقى علاقة الشعب العراقي بالعالم العربي، الاكثر تضررا، من جراء تراكمات بدأت منذ 1991.
تسببت النخب السياسية والثقافية والاعلامية والاجتماعية العربية في احداث القطيعة quot;النفسيةquot; بين الاغلبية العراقية والاخر العربي. التضامن، التهليل، الحديث عن البطولات، اتجه بشكل رئيسي الى النظام واهمل الشعب المحاصر خارجيا والمقموع داخليا. حتى التعاطف مع الحالات الانسانية في العراق، وجه لصالح صدام حسين والبعث.
بعث الخطاب الشعبي والنخبوي والرسمي العربي بالرسالة الخاطئة الى النخب والاغلبية المقهورة في العراق. فمن جانب هناك حصار تشارك فيه انظمة عربية تسببت به السياسات الخاطئة لنظام كان يحظى بكل اشكال الدعم العربي خلال الثمانينات، ومن جانب اخر دافعت النخب العربية عن هذا النظام وصمتت عن قسوته.
وبسقوط النظام سنحت الفرصة للرسمي والشعبي العربي، علّه يغير النظرة ويتصالح مع الجوار العراقي. الا أن السلوك القديم استمر، والدموع على quot;اسد العروبةquot; عنون المرحلة اللاحقة. الامر لم يقتصر على رفض الاحتلال، بل خالطه بشدة التعاطف مع شخص الدكتاتور والترويج له، رغم ان السقوط كشف جرائم مهولة حدثت منذ صعود صدام حسين للحكم.
هجرة مقاتلي تنظيم القاعدة العرب الى العراق بتسهيل من قبل بعض الجوار وصمت الجوار الاخرين وخطاب الاعلام العربي الطائفي، ادى لتأجيج مشاعر من الغضب والحقد تجاه كل ما له علاقة بالعالم العربي. فإقامة عزاء على زعيم تنظيم القاعدة في الاردن او غزة خلق شعور غضب عراقي.
الغضب استشرى ايضا في صفوف العراقيين الموالين للنظام السابق، في ظل اعتقادهم أن العرب تخلوا عن العراق. خيبة امل كبيرة ولدت، ودفعت اكثر الكتاب العرب الى تبني ذات الشكوى والمطالبة بدور عربي في العراق وانتقاد الانظمة على عدم لعب دور. مطالبة مضحكة، تعامل ساذج يجهل ان للواقع اسبابه الابعد من قرار سياسي يتخذه هذا النظام او ذاك، وان معالجته تكون بتغيير جوهري يمس ثقافة المجتمع العربي وسياسته.
التحولات النفسية والثقافية العراقية ليست قرارا امريكيا، او موقفا سياسيا اتخذه الحاكمون، ولا هو محاولة ايرانية او كردية... انما واقع حال صنعه العرب بأنظمتهم ومثقفيهم وشرائح واسعة من الشعوب.
وهنا يحضرني كلام لعادل عبد المهدي عندما كان نائبا لرئيس الجمهورية في احدى برامج قناة العربية، ومن بين ما قاله quot;على العرب ان يقبلوا العراق كما هوquot;. العراق يختلف عن العالم العربي بخصائص تاريخية وجغرافية وثقافية، غض النظر عنها والتعامل معه وكأنها غير موجودة هو تكريس للقطيعة. اما بقية المقولات السياسية المستخدمة من قبل كتاب المقالات واعمدة الرأي ومراكز الدراسات والبحوث، وهم كبير يبنى عليه حكم واهم.
في هذا الفضاء الثقافي العراقي الذي حسم موقفه بعيدا عن الخطاب القومي، ولد استغرابي من كلام صديقي المثقف العراقي القومي. اما البيئة العراقية الغاضبة، فإنها توجد ما هو ابعد من رفض الخطاب القومي، هي تتسم بالحساسية الشديدة التي تتجاوز حدود المعقول في بعض الاحيان، وهي تدفع باتجاه الانكفاء نحو الثقافة المحلية الصرفة.
ربما يعطي الحراك الاقليمي الراهن واستكشاف المعاناة الناجمة عن الاستبداد والتطرف الديني، فرصة اخرى لإعادة تواصل مختلف عما يريده الخطاب القومي المتحجر، او الخطاب الديني الطائفي الصاعد. ذلك رهن باتجاهات الرؤية والثقافة العربية اكثر مما هو مرتبط بتطورات الوضع العراقي.