يبدو ان فيلسوف الاغريق افلاطون لم يجانب الصواب حينما هزأ بالديمقراطية واتهمها بأنها لاتتوانى عن فتح صدرها للأفّاقين ورعاع الناس كي يتبوّأوا مناصب الصدارة في السلطة حينما قال : quot; ان من مساوئ الديمقراطية ان ترى بعضا من حثالة المجتمع والأوغاد يتسيّدون على بني جلدتهم quot;
وهذا ماألمسه في أرض الرافدين التي لم تشفَ بعد من آثار الغزو الاميركي منذ مايزيد عن العشر سنوات وماخلّفه من قتل مهول ودمار للبنى التحتية وتمزيق للوحدة الوطنية وترسيخ للانقسام والتمحور الطائفي المقيت من قبل ثلّة من الساسة الفاشلين ومنظومة سياسية من شخوص معظمهم من غير المتمرسين بإدارة دولة متعددة الاعراق والأجناس ، مختلفة المشارب لايهمهم سوى الاستحواذ على خيرات بلدهم واشاعة الكراهية وبثّ الفرقة وزعزعة الثقة بين شرائح المجتمع العراقيّ التي كانت حتى أمَدٍ قريب تتعايش معا في السرّاء والضرّاء ، وعملوا على إحداث صراعات طائفية مذهبية حتى يعتاشوا عليها ليبقوا في سدّة الحكم اطول فترة ممكنة
ومن طرائف ماقيل عن الديمقراطية ايضا هو ماقاله الفيلسوف الذائع الصيت رينيه ديكارت : quot; انّ الشيء المقرف في الديمقراطية انك تضطر لسماع الاحمق quot; ؛ وكم كان مصيبا صادقا .. اذ مازلنا نسمع من حمقى السياسة ماصمّ أذاننا من الهرج والمرج والصخب الفارغ في قنوات تلفزيونية تمتلكها الاحزاب المتسلطة علينا دون افعال نافعة وتصريحات وأقوال تهيض العظم وتنهش اللحم وممارسات ما انزل الله بها من سلطان ناهيك عن الشتائم والسبّ والقذف واستعراض العضلات وكيْل الاتهامات دونما حساب لشركائهم السياسيين في الحكم ودلائل دامغة من اجل التسقيط السياسي ليس الاّ ، وفقدان الثقة بين الكيانات الحاكمة وغير الحاكمة ...... لسبب بسيط هو ان نظامنا الديمقراطي يتنفس الغبراء لا الصعداء وان زهرة الديمقراطية قد نبتت في ارض سبخة لم يتم تأهيلها لزرع الورود اليانعة
وعلى الرغم من مرور اكثر من عشر سنوات على القضاء على الدكتاتورية وسحقها في العراق بفعل الغزو الاميركي عام/ 2003 فما زال النظام quot; الديمقراطي quot; مضحكاً متعثرا هزيلا لايقوى على الوقوف على قدميه بسبب قيام المحتل ببناء أساس هشّ على انقاض الدكتاتورية وتسلطّ الاحزاب والتيارات الثيوقراطية والمتأسلمة وتلكؤ الاحزاب اليسارية والليبرالية التي انزلقت أرجلُها وكادت ان تسقط مغميّا عليها في وحل السياسة الغريبة الطباع في بلادي فلا احد من ممثلي الفكر الليبرالي والتقدمي والقومي المتنوّر ارتقى عتبة مجلس النواب بقوة وثبات او ركَز في مواقع اتخاذ القرارات باستثناء بضعة شخوص لاتتعدى اصابع اليد الواحدة منذ الاطاحة بالنظام الدكتاتوري الصدامي . وظلّ وجودهم هامشيا ومجرد ديكور مشارك قليل الاهمية لايهشّ ولاينشّ
ومع ان التحوّل الديمقراطي لايمكن ان يتم بسلاسة وسهولة في بلد مثل العراق عانى منذ اكثر من ثلاثة عقود وضعا من حكم مركزي غاية في الصرامة لكننا لحدّ الان لم نلمس اية بوادر او خطى حثيثة للسير باتجاه تطبيق اوليات الديمقراطية وألف باء الحكم القائم على الانتخاب السليم بل بالعكس فقد تراجعت كثيرا حتى بعد مرور بضعة دورات انتخابية نيابية وننتظر الدورة الانتخابية المقبلة في نيسان من هذا العام والتي من المؤكد ان تكون لسابقاتها ... وقد يقول قائل ان التحول لابدّ ان يمرّ بمراحل طويلة وان ولادة الديمقراطية عليها ان تتجاوز مخاضا عسيرا جدا مثلما عانت بقية الشعوب الاخرى التي مرت بهذه المراحل وعلينا ان نتجرع دواءَها المرير ريثما نصل الى حالة التعافي مستقبلا ؛ فلا يجب ان نقتنع بان مجتمعا مثاليا سوف ينبثق من ركام الدكتاتورية وتسلّط الحزب الواحد قرابة ثلاثة عقود ونصف ؛ انما هذه التغييرات الحاصلة هي نقطة البداية فالمشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية ستبقى ماثلة امام الاعين وسنبقى نكتوي بنارها الحارقة أمَدا قد يطول ، لكن هذه المبررات قد تصح في بلاد لم تتعرض للغزو الاجنبيّ . اما التغيير الذي حصل في العراق فإنه لم يجيءْ بأيدٍ عراقية اذ لاتنطبق تلك القاعدة على العراق لاسباب منها ان الدول الاجنبية الغازية تنطلق من تحقيق مكاسب محددة لها بعد التحول من نظام الى اخر فالولايات المتحدة عزمت في اجندتها خلال الغزو على رسم خارطة جديدة لشرق اوسط كبير وجديد تخططه على هواها ومراميها بحيث تتفادى quot;شرورquot; رياح السموم المقبلة اليها من منطقتنا والمناطق القريبة ثم إحكام يدها على منابع النفط والسيطرة على الخزين الستراتيجي للاحتياطي النفطي الهائل في اعماق ارضنا والإتيان بشخوص سياسية طيّعة يسهل التعامل معها وتحريكها وتغيير مسارها وفق المخططات التي تحددها الولايات المتحدة وحليفاتها الدول الاوربية وغير الاوربية التي شاركت في الاطاحة بالنظام الدكتاتوري
والحق ان الديمقراطية التي جيء بها الينا كانت ذات طباع وملامح شوهاء وغريبة الانماط بدءاً من هيكلية مجلس الحكم السيئة الصيت والتقسيم الطائفي والعِرقي لمجتمعنا بذريعة ان البلاد هي عبارة عن مكوّنات شتى وخليط من الاجناس القومية والاثنيّة ومن مختلف المذاهب عدا الاقليات العديدة ، يضاف الى ذلك تنشيط وانعاش التيارات الاسلامية مذهبيا بالشكل الذي يخالف تماما ايّ توجه ديمقراطي منشود ولاننسى التهميش الواضح للتيارات الليبرالية واليسارية واضعاف دورها في بلورة وتنمية التوجّه الديمقراطي الجديد ، فكيف بالامكان تشييد بناء ديمقراطي سليم امام هذا الكم من المفارقات؟؟. يمكننا الاجابة انه ليس بعيدا عنا هول التحولات التي حدثت في الاتحاد السوفياتي السابق وتشظي هذا الاتحاد الى عدة دول وها هي الان تخطو خطوات حثيثة نحو النهج الديمقراطي ومثلها يوغسلافيا السابقة التي قسمت الى عدة دول وهي الان ترسم خارطة التحول الديمقراطي الجديد وتلك الدول كما نعرف دول متعددة الاعراق والعقائد وتكاد تقارب التركيبة السكانية لبلادنا ، لكن هناك من يضع العثرات والمطبّات من اجل الاّ يترسّخ النهج الديمقراطيّ لحاجة في نفس يعقوب
يبدو اننا لسنا وحدنا مَن تندّر بالديمقراطية الرثّة التي تمارس في العراق ؛ تلك الهدية المغلفة بسيلوفان جميل والتي وهبها لنا العم سام اول دخوله لبلادنا غازيا إذ فوجئنا بعد فتحها انها فستان تحيطه الثقوب ومهلهل في اغلب جوانبه لكننا لبسناه على عواهنه وصرنا اضحوكةً ومثار سخرية الجميع
ربما ان تطبيق المعادلة الصحيحة في الظرف الخطأ وفي الزمان والمكان غير المناسبين قد يأتي بنتائج عكسية سلبية واعجبُ كيف تُبنى دولة ديمقراطية بلا مقوّمات صلدة لمجتمع مدني وأسس دولة حديثة قائمة على المساواة فكيف تقوم منظومة ديمقراطية صحيحة في مجتمع تنخره ديدان الطائفية والعشائرية والمذهبية وتشاع فيه الكراهية بين ابناء المجتمع الواحد بدفعٍ وتحريض من ساستنا انفسهم ومن شيوخ القبائل وشيوخ الجوامع والحسينيات ؟!
ولاأظن ان الاحتلال ومن صحب الاحتلال من ذيولهِ ومريديهِ والمصفقين له لم يكن يحسبوا حساب هذه المفارقات والظواهر الغريبة في مجتمعنا العراقيّ
اما يكفي اننا طوال تلك السنوات العشر الفائتة مازلنا نتجرع علقم الديمقراطية المرير فمتى نتلذذ بحلاوتها فقد دفعنا ثمنا باهظا جدا لبضاعة بخسة ولسنا نحتمل المزيد فقد بلغ السيل الزبى ووصلت القلوب الحناجر كما يقول اسلافنا رحمهم ورحمنا الله

جواد غلوم
[email protected]