أن نأخذ مسافة من الثورة ونحن في غمارها نتقلب، مسألة دونها كل الصعاب. لذا، نجدنا نفتح أقواسا لقراءة الوضع، ونحن نعي حركية الموضوع الذي نحاول التعامل معه، ما أن تستقر حلقة في التحليل حتى تباغتنا معطيات واقعية بعيدة المدى تفقد الفكرة راهنيتها. لكن، يمكن للمسألة أن تأخذ صورة غير التي قدمنا. فكيف ذلك؟.&

أولها، أن خناق الثورة الجاثم على تحليلنا وهي لا تزال تعتمل قد تناقص، وبدأنا نأخذ مسافة ليست بالزمنية، ولكنها هنا، قد تُفسر بالمسافة الاستيعابية. ونصفها بالاستيعابية لأنها تعني قدرتنا في الآن بأن نضع مجموعة من الأفكار على الأقل خلاصات ذات حقيقة ثابتة. وإن أردنا الابتعاد عن منطق الوثوقيات، فعلى الأقل لها فعالية ذات مدى لا يزال ممتدا، وصالحا للاعتماد في قراءة الوضع، والتي قد نصوغها رؤوس أقلام كالتالي:&

- الثورات رغم تصرف الكثير من أيدي الأنظمة، والدول الكبرى قصد توجيهها، لا يمكن لنا إلا أن نقر بأن مطلب [ الحرية والعيش الكريم في بلد يحترم مواطنيه ]، حقيقة واضحة وسبب جوهري للخروج والعصيان. ولهذا، فرغم الخلط الذي أصاب تحاليل الكثيرين إزاء سوريا على وجه الخصوص، ومصر بنسب أقل. فإننا نعي جيدا أن الشعب طالب في البداية بشيئ واحد يجمع كل المطالب ويوحدها وهو الحرية والكرامة. ولهذا كان برهان غليون نابها عندما كتب في مقالة له، أن البداية كانت الحرية والكرامة، وهذا ما يجب ألا نتناساه، والذي لا يجب أن تحجبه عنا تفاعلية الأحداث وتناسلها. وقس مجددا ما حدث في مصر على ما ذكرنا، رغم كل تجاذبات النقاش والاختلاف، فإن المصري في اليوم الأول كان مطلبه واحد مشترك لا اختلاف عليه، وهذه هي البنية العميقة لجذوة الثورات التي ستحفر عميقا في مخيال الأجيال المقبلة.&

- حقيقة ترتبط بالأولى وهي أن هذا المطلب الأصيل، كما كان ثاويا في لحظات الاستبداد إلى أن انقض في لحظة من لحظات الذكاء الطبيعي للشعوب في مطلبها للحرية، سيبقى مطلبا يروم التحقق دائما، وما يعتمل حاليا من يأس ووهوم بفشل الثورات سيصير حدثا تاريخيا عابرا، كما سيصير بلغة البيداغوجيين كفاية معرفية وإجرائية، ستعلوها قيمة الحرية والكرامة مجددا، وإن آجلا، آجل ليس بالبعيد.&

- لا يمكن للملاحظ أن ينكر رابط التاريخ والدين والثقافة والجغرافية المشتركة بين شعوب دول الحراك، لكننا لا يجب أن نتناسى ما هو أهم في اعتقادي، وهو رابط الاستبداد والتخلف والظلم والفقر، لهذا، فلحظة الانعتاقة والتمرد الأولى في تونس، كانت خيط أمل تمسك به الكثيرون للنجاة. كما شكلت رجع صدى على المستوى الدولي، إزاء العولمة التي عولمت أشياء كثيرة، لعل أقلها قيمة الحريات والحقوق والمساواة بين دول المعمور. لهذا، فحركة وول ستريت المشهورة، والقيادة الشابة التي تزعمتها، تعبير صريح عن امتداد هذا الرابط ليتجاوز الجغرافية والدين، ويؤكد رابطة الإنسانية التي تجمع الشعوب، في نضالها من أجل مشتركات عيشها، ومقومات إنسانيتها، التي ساهمت البشرية جمعاء في التأسيس لها "الحرية والكرامة". رابطة يستشعر جيلنا بأكمله أنها جزء من مخيال القومية العربية المفرغ، والإيديولوجيات الماحقة، حيث لم نتلمس حقيقة كيف هو ترابطنا هذا، وكيف هي طبيعة هذه الجذور التي تجمعنا، لقد صيرونا في وضع المعلق بين الوهم والحقيقة، التاريخ وصناعة التاريخ..الخ. لكنا مع الثورات استوعبنا هذا الترابط بعيدا عن هذه الوهوم التي كبلت حواسنا وتفكيرنا، فنحن أبناء لحظات جرّحتها الأحداث، والجغرافية، والشبكة العنكبوتية. نحن المجربون ولن يتوقف تجريبنا لسبل خلاصنا.

- قد يتبدى للكثيرين أن الفوضى هي سيدة الموقف في ليبيا وسوريا والعراق..الخ. وهي فكرة مخادعة لا مجال للاقتناع بها إلا فيما تحاول الكثير من منابر الإعلام الدولية ترويجه بتسطيح متعمد، بمعنى أن الثورة ليس هي هذه، أو ليس هكذا تكون، محاولين تثبيت نموذج مثالي للثورات، هو ما عايشته الدول الغربية، في اختزال فاضح لتاريخ هذه الأخيرة. ولعل الخلاصة الأبرز أمام واقع هذه المناطق التي لا زالت تعيش انعداما في الاستقرار بعد حراكها. استيعاب الكثيرين داخل وعي ولا وعي شعوبنا، قيمة هذه الشعوب في صراعها من أجل تحديد مصيرها، لهذا، فالكل يدافع عن حقه في القرار وفي الحسم، وفي تحديد المستقبل.. وإن مالت المواقف للعنف.. فإن أساس التحرك يبقى وعيا يقدر قيمة الفاعل الإنساني الحر سياسيا، ما يعني رجوع الثقة بعد حين في السياسة عند شعوب هذه المناطق، فحتى عندما نجد يأسا من السياسات الحكومية لبعض النماذج الناجحة كتونس مثلا، فهو يأس لا يعني الرجوع لوضع سابق، كما لا يعني التفريط في مكاسب الثورة، وإنما رغبة/عجلة في جني مكاسبها. إنها طفولتنا أمام ثوراتنا. إننا أمام نقطة وعي لا يمكن الحديث عن ما قبلها، وإنما وعيا جذريا قد تحقق ويتراكم يوما بعد آخر، ولعله في تراكمه سيتجاوز آلامه الواقعية، نحو توافقيات أنضج ومستقبل آخر.&

- أثبتت الأحداث، كما التاريخ، أنه لا يمكن للاستبداد أن يكون ذكيا، ولا يمكن له أن يكون استثناء، فحين تصديقنا ذلك، كرها أو طوعا، فذلك يعني تخوفنا من المستقبل وتخوفنا من الحرية نفسها، تخوفنا من حقيقتنا وما يجب أن نكون عليه كما خُلقنا. فهذا الغباء الطافح من حولنا، والخانق على رقابنا بأسماء شتى منذ أمد غير يسير، سيحاول الانتصار لعادته في الإنتقام، وتصفية الحساب مؤجلا بأثر رجعي بعد هدوء العاصفة، وأقصد عاصفة الثورات، فما كتب عن "الخطر الداهم" – مثلا، كما عنون علي أنوزلا مقالته المهمة والشهيرة، يشكل واقعا لا يمكن التغاضي عنه، أو تجاوزه دون التفكير فيه كعائق يجب التفكير في إيجاد حل له، أو طريقة للتعامل معه. وهو يبين عن رابطة المصالح المشتركة للاستبداد، كما يبين رابطة مصالحنا في زوالها.

- حسب فكرة الكاتب الكبير أمارتيا سين وتمييزه بين الإحساس بالثورة والوعي بها، يمكن أن نحور اتجاه الفكرة في علاقتها بكُتابنا وباحثينا اليوم ممن لا يزالون يفكرون بطريقة القدامى ويدورون في فلكهم؛ حيث يحاولون التحليل والتوجيه، في معاكسة وانعدام قصدي للوعي بأنهم لا خيار لهم إلا الكتابة في اتجاه الحرية والكرامة، فواقع الشعوب اليوم – وفي ذلك مقتل هذا النوع من الكائنات - بات مُوجِّها وفاعلا ذا أهمية أكبر من مكتوب هؤلاء، لذا، كان محمد الحداد محقا حين عبر بأن ثورات الشعوب حررت هذه الكائنات، فهم منضوون في تنايا هذا الوقع، متأثرون به أكثر من تأثيرهم فيه، على الأقل لحدود هذه اللحظة التاريخية، دون نفي مجحف وكلي لأهمية مكتوب البعض منهم.&

- لا شك أن الجميع يلحظ أن مجتمعات الثورة تعيش نوعا من الانشطار بين نزوعات المحافظة والتحديث، منقسمة بين اتجاه ترى فيه تجسدا لامتدادها الثقافي والهوياتي والجغرافي، واتجاه ترى فيه جزءا من الخلاص مع تحفظ على الكثير الآخر الذي يكتنفه، دون أن ننفي ألوانا من الطيف داخل هذين الاتجاهين ممن يرون استراتيجية في الخلاص بالاتجاه الكامل نحو المحافظة، أو بالاتجاه الكامل نحو التحديث. الجميل في المعادلة خروج التحديث والأصالة، أو لنسمها ما شئنا، حيز النقاش النظري إلى غمار المماحكة التجريبية ضمن رصيد الوعي الجمعي للشعوب.

- فيما يتعلق بالإسلاميين والحكم، فإننا نود اللعب قليلا حسب تصور جون ناش مع هذا الواقع غير المرتفع، بالأخص بعد التغيرات التي حصلت في منطقتنا المغاربية و الشرق أوسطية، لذلك نود أن نتقدم بفرضية تقبل إمكان أن يسهم حزب إسلامي – ولما لا - كالعدالة والتنمية في المغرب، أو النهضة – مثلا – في تغيير المسار، أو في الدفع بطموحات المغاربيين نحو التحرر أكثر والاهتمام أكثر بالتحديث والتقدم. لا أعتقد بأنه لا يزال ضمن هذه التجمعات السياسية من يشك في كون القيم الثقافية الإيجابية والترويج لها كمناخ عام يسهم بشكل كبير في الدفع بالأمم نحو التحضر والانعتاق من ربقة الجهل والتخلف، لهذا، لن يكون كافيا فقط أن يشغلنا بنكيران (رئيس الحكومة المغربي) بأخبار البترول وأثمانه، أو بما قد يمنحه لنا من مساعدة لكي نعيش، بل نعتقد أن تحيز العدالة والتنمية أو النهضة لصالح قيم التحرر والتحديث ودول المستقبل سيكون أفضل قيمة سيتذكرها الوعي الجمعي المغاربي. فمواقف التحيز لاستمرار خصوصية ثقافة وهوية بلد ما، مهمة دون شك، لكننا نحتاج أيضا لتحيز من نوع آخر، تحيز للمستقبل، من خلال التأسيس لفعل جديد، قد يخلط الأوراق عند الكثيرين، بأن يخالف أفق توقعاتهم، لكنه قادر على توعيتهم تدريجيا ووفق واقع التجريب بأهمية التحيز للتحديث، قد يكون في هذا الإمكان الذي نفترضه ضربا من الحلم، لكنه إمكان قابل للتحقق، بالأخص بعد أن بدأت تزول تلك التهم التي لطالما ألصقت بالاتجاه الملتحي في مجتمعاتنا، في كونه لا يملك إلا ردود الأفعال وبأنه لا يعرف ماذا يريد، فهل سيريد يوما هؤلاء العلمانية كتأسيس لفعل مخالف للتوقعات الممكنة من قبله، بالأخص أنها لن تكون محط خلاف بعد أن تترهل أساطيرهم النظرية على وقع حاجيات وشرطيات المطالب المجتمعية الواقعية جدا.&

*كاتب من المغرب&

&