شاهد العالم بأسره كما شعب الخضراء ذلك الهيجان لساكن قرطاج، quot;رئيسنا المفدىquot; المنصف المرزوقي، احتفالا بختم الدستور في المجلس الوطني التأسيسي، وتلك quot;الإنفعالات الوجدانيةquot; التي سبغت تصريحاته لوسائل الإعلام. كما شاهد الكل تلك الأموال التي أنفقت على الشماريخ والألعاب النارية التي أطلقت من القصر الرئاسي احتفاء بهذا الدستور الوليد الذي بُعث إلى الوجود بعد مخاض عسير.
وبالغت وسائل الإعلام النهضوية، والأجنبية الخادمة لأجندات التنظيم الإخواني والمستقرة في بلادنا، في إبراز صورة كبير القوم، راشد الغنوشي، وهو يذرف الدموع فرحا بهذا الدستور. كما سعى البعض ممن يُحسبون على الموالاة إلى تنظيم الملتقيات التي دُعي إليها سفراء بريطانيا (باعثة تنظيم الإخوان) والولايات المتحدة (داعمة وصولهم إلى السلطة) فيما يعرف بـquot;بلدان الربيع العربيquot;، وذلك لتسويق نظرياتهم المتعلقة بأنه لا تعارض بين quot;الإسلام السياسيquot; والديمقراطية، وبالتالي القول ضمنيا للرعاة الغربيين بأن حركة النهضة هي من صاغ هذا الدستور، وأنها أنجزت ما وعدت به، وبالتالي وجب على هذه القوى مواصلة دعمها لتستحوذ الحركة على السلطة.
وهللت دول العالم بمسؤوليها وإعلامييها لهذا الإنجاز التونسي quot;الخارقquot;، وأعجب كثر بهذا الدستور، واعتبروا عددا من فصوله quot;تقدميةquot; تحقق تفوق التونسيين على بعض الدول التي تصنف في خانة العالم المتحضر. وتم التسويق إلى أن الحركة الإسلامية في تونس هي الأكثر اعتدالا في العالم العربي وأنها قادرة على إثبات أن الربيع العربي يمكن أن ينجح في تونس ويحقق ما فشل فيه الآخرون.
لكن ما خفي على هؤلاء جميعا أو تناسوه قصدا أن ما تمت الإشادة به في فصول الدستور - خصوصا تلك المتعلقة بالحريات والدولة المدنية - هو ثمرة نضالات المعارضة التي quot;سهرت من أجله اللياليquot; في ساحة باردو وتحملت قيظ صيفنا الحار من أجل إقراره ودفعت لأجله بأرواح أبنائها وقياداتها. وهو أيضا ثمرة جهود quot;إعلام العارquot; (النعت الذي يصف به إخوان تونس الإعلام الذي لم ينخرط في التسبيح بحمدهم) الذي انتقد زلات حركة النهضة وردع كثيرا من تجاوزاتها وشهَر بمحاولاتها لتكريس الإستبداد من خلال مختلف مسودات الدستور التي تم عرضها. كما أنه ثمرة جهود الرباعي الوطني الراعي للحوار وعلى رأسه الإتحاد العام التونسي للشغل الذي ضحى بالكثير في سبيل إنقاذ البلاد من الفشل والإقتتال بين مختلف الفرقاء.
ولولا جميع تلك الجهود المتظافرة لكان حزبا النهضة والمؤتمر يواصلان جدلهما العقيم، الذي وصل إلى حد الإقتتال من أجل كراس، بشأن صلاحيات رئيسي الجمهورية والحكومة تحت قبة المجلس الوطني التأسيسي، ويمططان مدة عمله إلى ما لا نهاية. ولولا تلك الجهود المتظافرة لواصلت حكومة العريض العمل وكأن شيئا لم يكن ولأتمت تعيين جميع مداحي النهضة والمتزلفين إليها في شتى المناصب الحكومية، لا تخشى في ذلك لومة لائم، ولاستمرت الميليشا العنيفة المسماة رابطات حماية الثورة في عبثها بالإجتماعات العامة لمنافسي حركة النهضة وللمنظمة الشغيلة دون أن تجد الرادع.
فالإقرار بمدنية الدولة في الدستور والذي أشادت به أكثر من جهة لم يكن مطلبا نهضويا. وإطلاق الحريات تم بخلاف إرادة الحركة الإسلامية الحاكمة. واستقلالية القضاء أزعجت كثيرا حركة النهضة أثناء النقاشات وجعلت إحدى نائباتها تصرح دون خجل أو وجل بأن قضاتنا فاسدين وغير جديرين بالإستقلالية. ومسودة الدستور الصادرة في الأول من الشهر السادس من السنة الماضية، كانت ستجعلنا مثارا لسخرية العالم بأسره لو تم تمريرها بالصيغة التي أمدنا بها السيد مصطفى بن جعفر رئيس المجلس الوطني التأسيسي وحليف الإخوان. فكيف يمكن لهؤلاء القوم أن ينسبوا النجاحات التي تحققت لأنفسهم دون سواهم؟
أما بالنسبة للمرزوقي فحزبه قاطع الحوار الوطني منذ البداية، ولم يعترف بجهود الرباعي، واعتبر الأمر بمثابة الإنقلاب على الشرعية في سير على خطى مرسي مصر، ولم يعترف بغير ساكن قرطاج راعيا لهذا الحوار، بل وساهم في خلق الأجواء المشحونة فيما كان الجميع يبحث عن الوفاق من خلال الكتاب الأسود الأسود الصادر عن مؤسسة رئاسة الجمهورية والذي قيل أن هدفه فضح الإعلاميين الذين تعاملوا مع نظام بن علي، فإذا بهم يستثنون منه من انقلب على عقبيه وصار بين عشية وضحاها متزلفا للحكام الجدد. فكيف يقطف المرزوقي اليوم ثمار ما أنجزه الآخرون وهو الذي كان جزءا أساسيا من المشكلة ولم يسع أبدا إلى الحل؟
لقد كان قادة حزب المؤتمر (حزب المرزوقي) على الدوام - من خلال رغبتهم في التشفي والتشهير والإنتقام وquot;نصب المشانق والمقاصل وإراقة الدماءquot; - أكثر راديكالية من صقور حركة النهضة الإخوانية. وكانوا أيضا دعاة إقصاء ولم يمدوا أيديهم للآخرين، فكيف يتحولون اليوم بقدرة قادر إلى مساهمين فيما تم التوافق عليه بين مختلف مكونات المشهد السياسي في تونس؟
إن ما يحصل اليوم هو محاولة جديدة لتزييف التاريخ الذي سيصاغ. فمثلما ركب هؤلاء القوم على ثورة لم ينجزوها وصاروا ناطقين بإسمها دون تفويض، يسعون اليوم إلى إقناع العالم الحر بأنهم - من خلال اعتدالهم واختلافهم عن نظرائهم في شتى بلاد الإسلام - من كتب هذا الدستور ومن أقر بمدنية الدولة ودافع عن الحريات وأراد ترسيخ استقلالية القضاء. وهم يسعون، بقصد منهم أو بدون قصد، إلى تغييب أي دور للمعارضة، التي رفضوا الجلوس إلى بعض مكوناتها، في وقت ما، بتعلة أنها إعادة إنتاج للمنظومة السابقة.
وتتحمل هذه الأخيرة (أي المعارضة التونسية) بعضا من وزر ما طالها من تهميش، وما اكتسبته حركة النهضة وتابعيها من ألق لدى جهات فاعلة خارج الديار، وذلك بفعل تقصيرها في إبلاغ الحقيقة كما هي إلى العالم رغم توفر القنوات والمنابر لتحقيق تلك الغاية.