&وراء كل قاتل جُموع من المبررين المؤيدين لجرائمه، توفر الغطاء المعنوي و الأرض الخصبة التي تنبت سفَّاكي الدماء. هذا ما تكشفه العمليات الإرهابية التي تحدث في دول الغرب بأيدي مسلمين و تندرج ضمن إطار العنف الديني، مثل جريمة قتل الصحافيين في باريس، أكثر من تلك التي تقع في بلداننا. لأن المُعلّق يكون أقل تحفظاً في التعبير عن رأيه علناً مما لو كان الحدث وقع في بلاده و لأسباب طائفية على سبيل المثال. المفزع هنا أن الحديث ليس عن متطرفين إرهابيين إنما عن أناسٍ عاديين، آباء و أمهات، أساتذة و طلبة، شبان و كهول من كل شرائح مجتمعاتنا.
إذا تابعنا ردود أفعال الناس فيما يخص واقعة (شارلي إيبدو)، سنجد أن أحد الآراء الشائعة يتلخص في أن القائلين به يرفضون القتل عموماً لكنهم لا يخفون رضاهم عن مصير الرسامين "المسيئين" للرسول، على اعتبار إهانة هؤلاء للمقدسات الإسلامية. بعبارة أخرى، يقول أصحاب هذا الرأي (نحن نرفض القتل و لكن..).
لا يخفى ما في هذا النوع من ردود الأفعال من تناقض. إذ يُنتَظر من الإنسان أن يرفض القتل في المواقف التي توجعه، التي تستفزه، لا في تلك التي لا تعني له شيئاً. لذا فإن الذي يقول (أنا أرفض القتل لكن الذي "يسيء" إلى ديني يستحق ما يحصل له) ليس ضد القتل بالمرة، بالعكس، هو مع القتل إلى أبعد الحدود. لأنه حين قُوبِلَ بما أغضبه رضي بسفك الدماء حلاً للمشكلة.
شكلٌ آخر من التأييد غير المباشر لواقعة باريس يتمثل في خلط المشهد بمواقف الغرب السياسية و العسكرية. من باب أن على الغرب أن يذوق بعضاً مما نذوقه، أو أن الغرب يمارس العنف ضدنا و بالتالي فإن حق الرد مكفول، أو أنهم هم الذين "خلقوا" الإرهاب أصلاً فليكتووا بناره.
هذا الخلط باطلٌ من وجهين، فأولاً المواقف الأخلاقية و الإنسانية لا يجوز أن يشوبها التشفي الذي يعبر قبل كل شيء عن العجز، هذا إذا فرضنا صحة ما يذهبون إليه من الأساس. و ثانياً، هذا الموقف ينطوي على خطأ فادح، وهو وضع دول العالم بمجتمعاتها و مؤسساتها بكل ما تحويه من تنوع في المواقف من قضايانا في سلة واحدة، و إدانتها جميعاً، ثم بالتالي إحلالها في منزلة العداوة. و هذا بالضبط هو المنطق الذي يبرر به القتلة استهداف المدنيين الأبرياء حول العالم، فهم يعتبرون أن المشارك في الماراثون و الجندي في المعركة شيء واحد. العالم ليس كتلة واحدة صماء تناصبنا العداء، و نحن نخسر الكثير من التأييد و التعاطف بهذا المنطق التعميمي في التعامل مع الآخر.
أما ردود الأفعال الأكثر إشكالية فتأتي على لسان فئة لا يُستهان بها عدداً، تصرح بأن القتل جزاء مستحق لكل من "يعتدي" على المقدسات الدينية. يقولون بصراحة أن نعم، المسيء إلى الرسول جزاؤه الموت سواء عبَّر عن إساءته برسم أو قول أو رأي أو كتابة. كأني بهم يعنون، ديننا دين الرحمة و السلام و المحبة لكن إياك أن تسبنا و إلا قطعنا رأسك. هذا الصوت يجد صداه في الأصوليات الإسلامية المتطرفة من جهة، و في أزمة الهوية الدينية التي يعاني منها بعض المسلمين من جهة ثانية.
الخَيار الأخلاقي بخصوص واقعة باريس و غيرها من الجرائم، بصرف النظر عن أماكن وقوعها أو انتماءات ضحاياها، واضحٌ لا لبس فيه. مهما كان رأينا في ما نشرته جريدة (شارلي إيبدو)، لا بد من تجريم القتل بدون استثناءات أو استدراكات تحيل الإدانة تأييداً مبطناً، هذا فضلاً عن التضامن الصريح مع القتلة. المجرم هناك في أوربا هو نفس المجرم هنا في بلادنا، ينطلق من ذات الايدولوجيا و الدوافع، و لهذا ينبغي تحليل الظاهرة في سياقها الأكمل.
على أننا نحن، الشعوب الأكثر اكتواءً بنار الإرهاب، يجدر بنا أن نكون بالمثل الأكثر حزماً في رفضه. الفشل في هذا الرفض بالذات هو من الشرايين الرئيسية التي تغذي خطاب الكراهية و الطائفية و العنف الديني في بلادنا. الخطاب المحتقن الذي نلقي له آذاناً صاغية و هو يُرمى في وجوهنا من على معظم المنابر الدينية الرسمية و غير الرسمية على حدٍ سواء.
النظر في المرآة لرصد عيوب الأنا و الجماعة ليس جلداً للذات، بل هو الشرط الأول لتحقيق حياة تليق بنا.
&
* كاتب و شاعر عراقي [email protected]
التعليقات