طرح الأستاذ هاني نقشبندي في مقالته الأخيرة المنشورة في موقع "ايلاف" بتاريخ 29/9/2015 ، السؤال التالي، وهو عنوان المقالة نفسها، "هل انقرض الفلسطينيون؟". وانطلق في محاولته للاجابة على السؤال المذكور موجها اللوم لما يجوز تسميتهم "فلسطينيو الخارج"، المقيمون في "دول يعيش القانون فيها سيدا. أولئك الذين هم في مراكز صناعة القرار في العالم". أي الجاليات الفلسطينية في "أوروبا، وفي أمريكا بشمالها وجنوبها، وحتى روسيا وأستراليا"، وتساءل "أين هم الآن؟ ولم هم صامتون؟" و"هل انقرضوا؟".&
واستثنى النخب السياسية الفلسطينية ممثلة بالسلطة الفلسطينية سواء المقيمة في رام الله أو غزة. وفي الوقت نفسه استثنى الفلسطينيين الموزعين في الدول العربية الذين" لا ينتظر منهم شيء، فهم إما اسرى البقاء بقدر ضئيل من الكرامة، أو أسرى التسليم والإستسلام". واستثنى أيضاً فلسطينيي الداخل الذين وضعهم نقشبندي في مصاف "الأبطال".
&وراى أن الجاليات الفلسطينية المذكورة "هي أكثر خمولا واستسلاما مما يمكن لها ان تكون". لأنها "تأثرت بنظيرتها في العالم العربي التي آثرت الصمت خشية التهجير ثانية".
وطالب تلك الجاليات بسلوك سبيل النضال القانوني ورفع دعاوى " ضد الحكومة البريطانية التي أعطت دون وجه حق، من خلال وعد بلفور عام 1917، فلسطين كوطن لليهود؟ و(...) وضد أمريكا في أمريكا نفسها". وقال:"سأخسر القضية ربما.. ليكن، لكن لا أبقى صامتا. وقد يأتي يوم أربح فيه قضيتي. لن أطالب بريطانيا بتعويض عن تهجيري أو ارضي التي سلبت مني، لأني إن فعلت أكون قد رضيت بالسلب. سأطالب بتعوض أدبي وبأرضي أن تعود".
وذكر فلسطينيي أوروبا والأمريكيتين واستراليا بتجربة يهود العالم الذين جمعتهم ووحدتهم المنظمة الصهيونية العالمية، التي نجحت في الحصول على "تصريح بلفور"، ولوبياتها العاملة في دول العالم أجمع، وعلى نحو خاص "إيباك" الناشط في الولايات المتحدة الأمريكية الذي صاغ علاقة شراكة خاصة بين واشنطن وتل أبيب.
&وانتهى نقشبندي إلى القول:" إن بقي الفلسطينيون انفسهم صامتون، خائفون، او منساقون وراء الشهوات والمال، فلن يعيد أحد الوطن إليهم، ولو حارب العالم كله من أجلهم".
حسناً، لم ينزلق نقشبندي نحو مطالبة فلسطينيي أوروبا والأمريكيتين واستراليا، بإنتاج "صهيونية فلسطينية"، رغم أن السلطة الفلسطينية ممثلة برئيسها الحالي، محمود عباس بشرت منذ عقود من الزمن بوجود "صهيونية تقدمية" و"صهيونية رجعية". وعمل حثيثاً لصالح تسيير الحركة الوطنية الفلسطينية على المسار نفسه الذي سارت عليه الحركة الصهيونية عبر بناء مؤسسات مشابهة وقيادات فلسطينية تكون في منزلة دافيد بن غوريون وأقرانه.
لكنه، أي الأستاذ هاني نقشبندي، انزلق نحو أمر خطير، يتمثل في التالي:&
1- جعل الفلسطينيين "شعوباً"، أي “كردنة الشعب الفلسطيني وقضيته’. أي أن هناك "شعب فلسطيني في "الداخل الإسرائيلي" و"شعب فلسطيني في الضفة الغربية" و"شعب فلسطيني في قطاع غزة" و"شعوب فلسطينية" في ما سمي دول الطوق وبقية العالم العربي. ولكل شعب قضيته الفرعية الخاصة به. وهذا التصنيف تصنيف خاطىء. وعلى أساسه يكون الفلسطينيين في الداخل في منزلة السود في الولايات المتحدة الأمريكية، بينما يكون فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة في منزلة السود في دولة جنوب أفريقيا في عهد الفصل العنصري "الأبارتايد". أما الفلسطينيون الباقون فهم في منزلة العبيد. لكن وكي تتضح حقائق المشهد الفلسطيني ينبغي الإقرار باختلاف أشكال وأدوات كفاح الفلسطينيين حسب واقعهم الجغرافي السياسي. وهو الأمر يتطلب تعدد البرامج السياسية تحت سقف وبرعاية قيادة موحدة لعموم الشعب الفلسطيني.
2- عقد مقارنة غير واقعية بين القضية الفلسطينية والمسألة اليهودية في أوروبا، و لا تجوز أيضاً بين القضية الفلسطينية وقضية الهنود الحمر في الولايات المتحدة الأمريكية. فالفلسطينيون ليسوا يهوداً أو هنوداً حمر. والقضية الفلسطينية قضية تحرر وطني من نير استعمار استيطاني إجلائي. وليست قضية أقلية قومية تتطلب حلاً قومياً. فضلاً عن أن الحركة الصهيونية ليست حركة تحرر قومي ليهود العالم.
3- تجاهل القيام بمقارنة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للجاليات الفلسطينية في أوروبا والأمريكيتين واستراليا بأوضاع اليهود الأقدم وجوداً تاريخياً ودوراً وظيفياً اقتصادياً في تلك البلاد. وبالتالي لابد من تضافر جهود وعوامل كثيرة لنجاح محاولة استنساخ لوبيات فلسطينية في تلك البلاد على غرار "إيباك" في الولايات المتحدة الأمريكية و"ليكرا" في فرنسا.
4- تجاهل نشاط الجاليات الفلسطينية في أوروبا والأمريكيتين واستراليا سياسياً وإعلامياً لخدمة القضية الفلسطينية والتواصل مع جماعات السلام الأوروبية والأمريكية ومع حملات مقاطعة إسرائيل أكاديمياً واقتصادياً والحملات الرامية إلى تقديم مجرمي الحرب الإسرائيليين إلى العدالة الدولية.
5- إذا كانت ثمة أهمية كبرى لعمل اللوبيات في الولايات المتحدة ودول الغرب عموماً، وفي ظل غياب لوبي فلسطيني، أين اللوبيات أو اللوبي العربي المفترض وجوده لخدمة القضايا العربية وفي مقدمها القضية الفلسطينية؟. ولماذا نجح اللوبي الإيراني المعروف باسم المجلس الوطني الإيراني الأميركي NIAC”" في مقارعة اللوبي الصهيونيِAIPAC”".
6- الفلسطينيون ليسوا من صنف الملائكة أو الشياطين. ومن الخطأ الجسيم وضعهم جميعاً في منزلة المنساقين وراء الشهوات والمال. إضافة إلى أنهم ينحدرون من فلسطين التاريخية أو الانتدابية ودول اللجوء العربية. وهاجروا وهجروا إلى البلدان الأوروبية والأمريكية تحت وطأة الصراع في وعلى فلسطين. وجوازات سفرهم الجديدة الأوروبية والأميركية لا تشفع لهم ولا تحميهم من الإجراءات القمعية الإسرائيلية التي تمارس ضدهم أحياناً لدى زياراتهم لوطنهم الأم بصفة "سياح".
7- الدول التي يعيش القانون فيها سيدا. أي مراكز صناعة القرار في العالم ليست في واقع الأمر المدن الأفلاطونية الفاضلة. فالقانون السائد فيها وقف عاجزاً في مناسبات مختلفة. إضافة إلى أن مراكز صنع القرار في العالم هي التي رعت ومولت وزودت إسرائيل بكل صنوف القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية لأنها تعتقد أن وجود إسرائيل في الشرق الأوسط يخدم مصالحها الحيوية أولاً ومصالح اليهود لاحقاً.
8- ثمة حالة واحدة ينقرض الفلسطينيون بوصفهم عرباً، تتمثل في انقراض العرب وذوبان كياناتهم السياسية سواء أكانت دولاً مملوكية أو طائفية بنية ووظيفة. وهكذا حالة غير قابلة للتحقق فالصراعات التاريخية الرامية إلى الهيمنة على العالم العربي وطمس هويته لم تنجح في تحقيق أهدافها. وعليه لا ينبغي نعي العروبة أو إدخال الفلسطينيين إلى متاحف التاريخ السياسي بوصفهم كائنات منقرضة. بل ينبغي ويجب تقدير تضحيات جماع الشعب الفلسطيني ككتلة وطنية هدرت تضحياتها نخب سياسية فرطت بإفراط كبير بحقوق الشعب الفلسطيني.&
*باحث سوري في قضايا الشرق الأوسط.
التعليقات