كثيرا مانُسائل انفسنا ما الذي يجعلنا نهيم ونتعلق بشخوص وآثار صنمية وأفكار متحجرة عفا عليها الزمن وصارت في عداد الخردة غير النافعة والمصابة& بالعقم ونلطم على الخدود ونشقّ الصدور حزنا ونحيبا على فكر ولد ميتا ونظرية لم يكتب لها ان تتآلف مع ما نحن نعيشه الان من تغييرات مدنية وانظمة حكم راقية وسامية ونماء يسود العالم ونظريات فكرية وسياسية اثبتت جدارتها ورقيها كان من اللازم ان نتشبث بها ونمسك بتلابيبها وصولا الى مانصبو اليه لنكون في المكان الصحيح حالنا كحال الشعوب المتطلعة لآفاق التقدم والازدهار ؛ بينما نحن بطيئو الخطى ونتعثر بماضٍ كله مطبات واوحال وعثرات
متى نتوقف عن تمجيد افكار لم تقدم لنا شيئا وهي في اوج نهوضها ورسوخها في عقولنا ، أتراها تدفعنا الى النهوض والارتقاء وهي في هزيع عمرها الاخير وتكاد تلفظ انفاسها الاخيرة ؟
انا هنا اتحدث عن الجامعة العربية التي كمدت على صدورنا عقودا طوال دون ان نلمس منها انها كانت القول الفصل او الفعل الجدير بالحزم والقوة والمنعة لنا نحن العرب التي ظلمتنا تلك الجامعة دون ان ترتقي ببلدانها التي انضمّت اليها الى مدارج الرقي والمكانة اللائقة لبلداننا بين الامم والشعوب في هذه المعمورة
فمنذ ان ظهرت التيارات القومية العربية بعد الحرب العالمية الاولى وانتهاء الحكم العثماني بدولته العجوز وسحقها الى غير رجعة مع اولى بوادر الثورة العربية في شبه الجزيرة العربية التي دعت الى تكوين كيان عربي موحّد واستثمار فوز الحلفاء وسقوط العثمانيين لتحقيق هدف الدولة العربية المبتغاة ، لكن هذه المساعي لم تتحقق مثلما ارادتها التيارات العروبية لتشكيل دولة عربية منشودة حيث انبثقت كيانات عربية مجزّأة هنا وهناك بعد انتهاء الحرب الاولى مع وجود المستعمر الاجنبي وظلّت الارض العربية تنجب كيانات صغيرة وكبيرة ؛ ممالك وإمارات وسلطنات ثم جمهوريات في خمسينيات القرن المنصرم ومابعدها والتي توزعت من المحيط الاطلسي الى الخليج العربي
وبعد ان استقلّت هذه الدول والممالك والإمارات ؛ بقيت الحاجة ملحّة الى تكوين كيان واحد يجمع تلك الكيانات في منظمة بعد ان استحال التوحيد ؛ تتمثل فيه كل دولة فتمّ انشاء جامعة الدول العربية في اعقاب الحرب العالمية الثانية لاجل تحقيق الحدّ الادنى من العمل العربي المشترك وتكوين مظلّة سياسية تجمع العرب معاً في كيان واحد لامتصاص الزخم القومي المتصاعد وقتذاك تحت مسمّى " جامعة الدول العربية " بعد ان عجزت الدول العربية عن تكوين اتحاد فعلي رغم المشاريع والمساعي والشعارات القومية والعروبية التي دوّخت رؤوسنا ابان القرن الفائت
ومع ظهور الحقبة الذهبية للتيارات القومية وسيطرتها على الحكم في بعض الكيانات العربية منذ اوائل الخمسينات والسنوات التي أعقبتها ؛ برزت الاحزاب القومية وركزت أقدامها في الكثير من الاراضي العربية ( المدّ الناصري في مصر ، نموّ حزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا والعراق ولبنان، حركات القوميين العرب من غير الناصريين كالحزب القومي السوري ) ورغم رسوخ تلك الأحزاب وتجذّرها في ارضنا لكن الجامعة العربية بقيت ضئيلة الدور وفشلت في تحقيق ماكان يصبو اليه الشارع العربي الذي كان يغلي عروبةً وظلّت مكبّلة بالانقسامات والتوجهات المتنوّعة وكل كيان عربي يرى مالايراه شقيقه الكيان العربي الاخر
ومع انبثاق الربيع العربي& وصعود بعض التيارات الاسلامية ووصولها الى دفّة الحكم في عدد من الدول العربية بصناديق الاقتراع سدّا للفراغ بعد زوال الدكتاتوريات وانبعاث حالة اليأس من الفكرة القومية التي لم تقدّم شيئا ملموسا من الارتقاء رغم ان مشاركة دعاة الاسلمة& في ثورات الربيع العربي غير ذات شأن يذكر ولكنها& اكتسحت الساحة السياسية اول الامر كما حدث في مصر عندما صعد الاخوان للسلطة وتونس الى حد ما في نهوض الغنوشي وحزبه وقد حاولت الاحزاب الاسلاموية ان تروّض نفسها وتتكيّف مع النهج الديمقراطي وتساهم في العمليات الإنتخابية كشريك فعّال يحسب له الف حساب ، اما التيارات القومية فقد تضاءل دورها بشكل ملفت للنظر حالها حال التيارات اليسارية والليبرالية ويوحي بان مستقبل الجامعة العربية والتيار القومي آيل للزوال وتكاد تلفظ أنفاسها الأخيرة لانها كانت تنتعش وتتغذى على التيار القومي الذي جفّ ضرعه وخفتَ صوته
وهناك مؤشرات توحي وتدلل بان الجامعة العربية الان بصدد حفر قبرها بأيدي الاسلام السياسي .. اما الحديث عن الوحدة العربية في ظل هذه الاجواء انما هو ضرب من الأوهام ومغازلة المستحيل وربما أضغاث أحلام لاتوجد الاّ في مخيلة ماتبقى في عقول بعض تركة القوميين الهرمين مهما حاولوا من تحشيد عواطف الجماهير واستثارة مثل تلك النزعات المتهالكة لدى البقية الباقية من رعاة القومية
غير اننا نستشفّ بان التيارات الاسلامية لن تكون قادرة حتى& لو رسخت اقدامها في السلطة امدا قصيرا لانها لاتحسن ترويض نفسها وتنسجم وتتصالح مع التيارات المدنية الحديثة وتتغازل مع العلمانية في مجتمعنا مثلما نرى الان في ماليزيا او تركيا على سبيل المثال لا الحصر ، اما الوحدة التي نعرفها ونفهمها منذ السابق مثل (مشاريع الجمهورية العربية المتحدة / سوريا ومصر والعراق ، ومجلس التعاون العربي والاتحاد المغاربي وغيرها ) فسوف تظل مجرد سطور كتبت على صفحة الماء كما يقول اديبنا الكبير جبران خليل جبران وماهي الاّ احلام عصافير ضيّعت طريقها نحو اعشاشها باستثناء مجلس التعاون الخليجي الذي بقي الى الان واقفا على قدميه وهو مشروع قريب من المسار الوحدوي الاكثر نضجا من المشاريع السابقة التي ولدت ميتة اصلا ونؤكد يقينا ان الجامعة العربية ربيبة الفكر القومي الراقد الان على تخت الموت السريري سوف تودّع الحياة السياسية وتنقطع انفاسها وسيقوم دعاة القومية على حمل نعش الجامعة العربية الى مثواها الاخير في غضون السنوات القليلة المقبلة وربما يتم تحويلها الى مومياء حداثوية يجري تقديسها في مكمن ضريحها كعاداتنا المتوارثة في عبادة الامكنة والمزارات الدينية ولَمَ لا فالمزارات المقدسة القومية لها حق علينا في تقديم واجبات الطاعة والبكاء على موروثاتنا في هذا الزمن الممتلئ بالأصنام الجديدة& وقداسة الماضي وإحياء الموتى وانتظار المنقذ والصبر على البلاء والرضوخ للاستكانة مادمنا ننشد ابطالا اسطوريين وشخوصا خرافية ستأتي لاحقا لنجدتنا وتخليصنا
عفوك ايها الانسان العربي العائش هنا ؛ كم من العجز والارتخاء والهوان تدّخر
ما أثقل عبئك ولا أظنّه سينزاح عن كاهلك ولو بعد عقود طويلة من السنين
لأنك آثرت واستسغت أحمالك ولم تنزع الى العلى بسبب ثقل ماتحمل وبقي اليأس يلازمك&

[email protected]