عندما كنا صغاراً نلعب في شوارع المدن العراقية وفي أزقتها كنا نسمع من الأهل أن عدداً من (الجته) دخلوا مكتبا لأحد التجار وهم يحملون المقاوير والسكاكين وأخذوا ما بحوزة المحاسب من المال. لم نفهم معنى "الجته" ومن أين جاءت هذه التسمية، فهم غير اللصوص، غير الحرامية. لأن الحرامي يسرق وينهب في الغفلة وفي الليل وفي النوم، فيما "الجته" يظهر للعيان وينهب أمام السمع والبصر. و"الجتة" لا يقتصر عملهم على نهب المال، فهم يستطيعون تمشية المعاملات الروتينية حتى غير القانونية ويجبرون الموظف على توقيع ورقة طابو أو وكالة أو تمشية صك توقيع صاحبه غير متطابق، يدخلون في المصارف وفي المحاكم وفي دوائر الدولة ويقفون على رأس الموظف أو المسؤول وينجزون معاملتهم ويذهبون دون أن يقترب منهم أحد من المواطنين أو من الشرطة أو من رجال الأمن.

كبرنا وقرأنا وكتبنا وهجرنا وعدنا وهجرنا ثانية وثالثة. ويوم وقع في أيدينا تاريخ بغداد المدون وتاريخ العراق المدون وتاريخ الدولة العراقية المدون، عرفنا عن هذه الفئة التي تسمى "الجته" هم مجموعات من سقط المتاع وغير المتعلمين يأخذون حقهم وغير حقهم بالقوة بالمقاوير والسكاكين وأحيانا بمسدسات "الوبلي" ويبدو لي أن كلمة "جته" هي كلمة عثمانية بإمتياز حيث مثل هذه الظاهرة برزت في تركيا أبان الحكم العثماني وإنتقلت إلى بغداد بعد هيمنة الدولة العثمانية على الأراضي العراقية.

و"الجته" هي ليست ظاهرة لصوصية أو حرمنة فاللص والحرامي يسرق في غياب صاحب المال أو في غرقه في النوم أو في ترك محلة والذهاب لقضاء الحاجة أو يذهب للصلاة، فيأتي اللص والحرامي ويستولي على الموجود ويهرب، لكن ظاهرة "الجتة" هي ظاهرة علنية واضحة للعيان يأتون ومعهم حمايات ويأخذون ما يريدون على مرأى ومسمع من الناس والشرطة والأمن والدولة ويغادرون بطول قاماتهم وعرضها.

و"الجتة" ظاهرة لم تقتصر على المجتمع وفي المجتمع بل أن مفهومها سرى إلى النخب السياسية والأحزاب والمؤسسات الدينية. هي ظاهرة تأخذ أشكالا مختلفة وصيغا مختلفة. فعندما مرت الدولة العراقية بفترة إسترخاء في نهاية الستينات من القرن العشرين، بعد إضطرابات عسكرية وإنقلابات ظهرت في السابع عشر من تموز 1968 مجموعة من "الجته" ممثلة في مائتين وإثنين وأربعين عنصراً من البعثيين "الجته" بقيادة الأشقياء "صدام حسين" أشقياء منطقة الجعيفر الذي كان يسرق البطيخ بشكل معلن وعلني يخيف البائع ثم صار يجمع التبرعات لمجموعته من أصحاب المال. وقف لكي يطلق مجموعة طلقات من الدوشكا التي على ظهر بيك آب في حديقة القصر الجمهوري فأزاح رئيس البلاد عبد الرحمن عارف وسيطر مع مجموعة من الضباط على مقاليد البلاد وبعد أربعة عشر يوما دعا الإنقلابيين من الضباط على حفل غداء على لحم غزال وأعتقلهم وسفرهم إلى خارج البلاد، وأنفرد كرئيس "للجتة" بحكم العراق وقاده إلى المهالك بسبب الحروب وإنهاك الإقتصاد وتحويل المعرفة والتعليم والثقافة إلى ثقافة حرب وتعليم حرب.. ومات الناس وهجروا. فظاهرة "الجته" وتطورها ومفهومها هي ظاهرة خطيرة لو سادت مجتمع من المجتمعات.

ظاهرة "الجتة" صارت ظاهرة سياسية وحزبية ولم تسلم منها حتى أحزاب اليسار في العراق فقد مرت في تاريخ الحزب الشيوعي ظاهرة الجتة أكثر من مرة وسيطر بعض "الجتاوات" على أموال&حزبهم كان أولها تجربة دار النور في عام 1960 التابعة للحزب الشيوعي العراقي. وتكررت ثانية في بيروت ودمشق عام 1979 وما بعدها حين هيمنت مجموعة من "الجته" على أموال الحزب وإنتقلت لتحكم في بغداد مع عصابات "الجته" السائدة في المجتمع العراقي. فالأحزاب اليسارية وهي من المجتمع العراقي وليست غريبة عنه نمت في نفوس قادتها ظاهرة "الجته" ولم يستطع الحزب بفكره الإممي الإرتقاء إلى مستوى أعلى من هذه الظاهرة الإجتماعية المرضية الخطيرة ليشكل النموذج المثل الذي يصبو إليه المواطن.

سقط نظام صدام غير مأسوف عليه وكان الناس يعتقدون أن ظاهرة "الجته" سوف تصبح إلى زوال، وسوف يستعيد المجتمع عافيته وتبسط السلطة قوتها وتزج اللصوص والحرامية ومكونات "الجته" في السجون لأنها الظاهرة الأخطر على المجتمع فهم ليسوا لصوصا مختبئين في جحورهم. هم شقاة علنيون يختارون واحداً من بينهم ويصيرون أتباعاً له ويبتزون الناس والتجار والمؤسسات.

فبعد أن سقط نظام "الجته" الأوحد وكان المتنفذ الوحيد لإبتزاز إستراحة الوطن والمواطن، وإذا بالمجتمع العراقي كاملا تسوده ظاهرة "الجته" بأشكال مختلفة ومثيرة، هذه الظاهرة التي كانت نائمة في ذوات المجتمع العراقي والتي نمت ورعتها وسقتها ظروف سياسية وإعلامية ترسخت في ذات المجتمع العراقي وتكونت مجموعات "الجته" التي صدرُتها الأمبراطورية العثمانية فوجدت أرضا خصبة لنموها بسبب طبيعة التحولات السياسية. فإن أول مجموعات من "الجته" توجهت بعد نيسان عام 2003 نحو أبواب ومداخل الوزرات العراقية والبرلمان ورئاسات الجمهورية وسنت لنفسها قوانين "الجته" التي شرعنت السرقات العلنية وبدلا من أن تكون مجموعة "الجتة" في بداية نموها تنهب في العلن الخمسمائة دينار من صندوق المحاسب صارت تنهب مئات الألوف ثم الملايين ثم الملايارات من خزائن البلاد أمام مرأى ومسمع المجتمع العراقي حتى وصلوا إلى إفراغ الخزينة وقاصات المصرف المركزي وباتت رواتب المتقاعدين مهددة بعدم الصرف ناهيك عن رواتب حماة الوطن والأمن وموظفي الدولة.

وإذا ما تركنا السلطة جانباً فإن المجتمع العراقي بكل فئاته قد شكل بسبب إضطراب الأوضاع السياسية والأمنية والإعلامية مجاميع "الجته" في كل مسارات حياته. في الوزرات والمؤسسات ومديريات إصدار الجنسية ومديريات التقاعد والمصارف ووزات المال والثقافة والنقل والموارد المائية. في كل غرفة وفي كل مكتب وزير وفي كل إستعلامات الدوائر والمؤسسات ترى بعينيك مجموعات "الجته" تحكم البلاد وصارت قوانين "الجته" سائدة في الجتمع وصارت أعرافاً في مسار المجتمع العراقي.

لقد زرت العراق بعد غياب أكثر من أربعين عاما. وذهبت لإنجاز معاملة التقاعد البسيط والبائس وكي أستعيد أوراقي الثبوتية. في كل مؤسسة زرتها وهي بيروقراطية مقيتة تصعد وتنزل وتنزل وتصعد وتأخذ تاكسي لجلب ورقة وتعود للمؤسسة الأولى ثم تذهب للثانية وتسافر من مدينتك إلى بغداد والناس مثل يوم الحشر يصعدون وينزلون السلالم ويوقفون سيارات التاكسي وسط الحر القائظ والغبار وأنت ترفع ورقتك وتصيح وتتوسل ولا أحد يعطيك فرصة الصياح يأتي فجأة رجل دين معمم وخلفه بضعة أنفار، يأتي وهو يشبه شخصية الرجل الخفاش في الأفلام وعبائته الرقيقة تطير خلفه متحركة ومشدودة من العنق فيلمحه الموظف أو المدير أو المحاسب ويصيح بالمراجعين "سووا درب للسيد"! يصل السيد وفي يده الملف فيحصل على توقيع المدير الذي يصبح بالمراجعين ثانية "سووا درب للسيد".. هؤلاء السادة هم فئة من "الجته" صاروا يستأجرون من قبل المواطنين ويدفعون لهم ثمن "السيادة" أنهم يتكاثرون ويكثرون في مجتمع العراق، فالذي يملك ثمن دفع أجرة "الجته" قد يختصر الزمن في تمشية معاملته ومن لا يملك أجرة "الجته" فإني شاهدت إمرأة في مديرية شهادة الجنسية جلست على أرض الممر وهي تبكي وتنوح وتشكو قصتها بكاء ونواحاً فهمت منها أنها مر على حالتها هذه وبيدها الملف شهرا كاملا وهي لا تعرف الطريق لتوقيعها وتندب أولاد&الحلال أن يساعدونها والناس منشغلة بصعود السلالم والنزول منها وتمر العمائم وعباءات الرجل الخفاش السوداء الخفيفة بين الجموع تخترق التجمعات ويسمع الصوت من المسؤولين "سووا درب للسيد"!

لم تقتصر ظاهرة "الجته" على المعاملات اليومية ولم تقتصر على الأحزاب اليمنية واليسارية على حد سواء فلقد سرت إلى المؤسسات الدينية التي شكلت المليشيات وهيمنت على منابع الثروات وكل يأخذ حصته من النفط بطريق "الجته" الذي تحول من مجموعة صغيرة من الأفراد تنهب أمام العيان خمسمائة ديناراً إلى مؤسسات مليشياوية دينية تجمع الثروات وتهربها إلى خارج الأوطان لتغذي إقتصاد بلدان مجاورة، وصارت ظاهرة "الجته" مشرعنة بقوانين يقرها برلمان وما ظاهرة المحاصصة السياسية إلا شكل من أشكال "الجته"الإقتصادي الذي تقره قوانين الدولة ودستور البلاد. تتمثل ظاهرة "الجته" أيضاً بالمقاولين الذين ترسو عليهم المناقصات والمزايدات والمشاريع وأستيراد البضائع حتى متجاوزة الصلاحية وإنشاء دار للأوبرا بثمانية عشر مليونا من الدولارات من قبل شركة وهمية لا تزال مجموعة "الجته" نافذة في وزارة الثقافة العراقية "ولا أحد يسأل ما حاجتنا إلى دار للأوبرا ونحن نفتقر لرغيف الخبز النظيف حقيقة أو مجازاً! ونكتة دار الأوبرا التي دفعت وزارة الثقافة ثمنها عدا ونقدا ثمانية عشر مليون من الدولارات لشركة من شركات الوهم، هو مجرد مثال عابر" من الصعب التوقف عنده لأن ظاهرة "الجته" سادت المجتمع العراقي بكاملة بمؤسساته السياسية بمرجعياته الدينية بأحزابه السياسية اليمينية واليسارية بمليشياته وبكل فئات المجتمع القادرة على تشكيل مجموعات "الجته" التي تبتز وتنهب المجتمع والثروات الطبيعية وتهيمن على المقاولات والبضائع المستوردة وموانئ البلاد ومطاراته وتسن لذلك القوانين وتشرعن ظاهرة "الجته"، والأخطر من كل ذلك أن الكثير من "الجتاوات" المتسلطة من المليشيات والأفراد أنشأوا قنوات فضائية تكرس ظاهرة "الجته" وتنظر لها بأشكال مختلفة بل وتحول الظاهرة إلى صيغة من صيغ الديمقراطية ودون أن يدري المتلقي فهو ينتمي للظاهرة مدنيا ودينيا وإجتماعيا وسلطوياُ بحكم ظاهرة الإعتياد والتكرار، فباتت الظاهرة سمة السلطة والمجتمع، حتى بات المجتمع العراقي في حال يصعب فيه إيجاد الحلول لإعادته إلى سواء السبيل مثل المجتمعات السوية ووصل به الحال إلى إنسداد الأفق أمامه وبات الأفق معتماً مخيفاً ينتظر معجزة من السماء أو من الأرض وكلاهما عاجزان عن صناعة المعجزات فلم يعد بحوزة السماء ما يكفي من الأنبياء ولم يستطع الشعب على الأرض من أن يفرز رموزه الثائرة حين ثوى المصلحون في قبورهم ويئس الثائرون من إيجاد سبل الإصلاح. والواقع بصراحة مظلم ومخيف ولا يبشر بالخير.. و"سووا درب للسيد!"

&

كاتب وإعلامي عراقي مقيم في بانكوك