منذ سقوط الدكتاتورية في بغداد عام 2003 والبدء ببناء النظام الجديد بالعراق أساسه الدستور، تتأثر العلاقات بين الحكومتين المركزية والإقليمية بين مد وجزر دون أن تستقر للحظة على الرغم من أن هناك دستورا يحدد حقوق وواجبات الطرفين، فانه يحدد أيضا نوع العلاقة السياسية والإدارية والإقتصادية بينهما.

&قبل الخوض في تشخيص أسباب تأزم العلاقة بين الحين والآخر بين الجانبين، لابد من ذكر حقيقة أن معظم مواد وبنود الدستور شاركت القيادات الكردية بصياغتها في حينه،ولكن منذ إقرار ذلك الدستور ولحد اليوم مازالت هناك إزدواجية من الطرفين للتعامل ببنوده، فلكل تفسيره لمضامين الدستور بشكل يؤدي في غالب الأحيان الى حدوث أزمات تصل في أحيان أخرى الى حد القطيعة وتبادل الإتهامات وتحشيد القوات العسكرية.

فعلى سبيل المثال إذا أخذنا حصة إقليم كردستان من موازنة الدولة وهي محل نزاع مستمر منذ سنوات بعيدة، فإن حكومة الإقليم تطالب بغداد بتخصيص حصتها البالغة 17 بالمائة في كل موازنات الدولة بإعتبارها حقا دستوريا لها، لكنها تمتنع عن تسليم عوائد نفطها المستخرج من أراضي كردستان وهي أراضي عراقية حسب الدستور الذي ينص بأن النفط هو ملك للشعب!

وفي إدارة الدولة فإن قيادة الإقليم تعتبر نفسها شريكا في قيادة الدولة وتطالب بحق المكون الثاني الرئيسي بوظائف الدولة بما فيها المناصب السيادية العليا، لكن ذلك لايمنع رئيس حكومة الإقليم أن يعلن بصراحة بأن العراق لم يعد بلدا موحداً،وأنه لا ولاء فيه !..

المشكلة أن السلطة عندما تتحول الى الديكتاتورية فإن علاقة الدولة بالآخرين يتحكم بها المزاج الشخصي للسيد القائد وليس الدستور أو مضامينه.وإذا كان هذا القائد قد جاء من خلفية عشائرية أو قبلية، فإن الأمر يزداد سوءا، لأن القائد سيحيط نفسه بهالة من القدسية بحيث لايرد له قرار أو حكم،ويعين نفسه كنائب عن الله أو خليفته على الأرض،ويكون هو فوق القانون والدستور، وبذلك فإن أي نقد أو إعتراض على قراراته يعد إنتقاصا من هيبة وقدسية مقامه،وهذا ما حدث بالفعل مع صدام حسين الذي أصابه الغرور المرضي بعد زياراته الشهيرة لمحافظات ومدن العراق في عام 1978 والتي كانت تنقل عبر التلفزيونات بشكل يومي،وتأثرا بتلك المظاهر المزيفة أقدم على تنفيذ إنقلابه المشؤوم على رئيس الجمهورية آنذاك أحمد حسن البكر ونصب من نفسه ديكتاتورا أوحدا في العراق..فتلك الهالة المقدسة التي رسمها صدام حول نفسه سرعان ما دفعته بلحظة طيش وغرور الى أن يهدد إيران بحرب ضروس بعد إتهامها بتفجيرات جامعة المستنصرية،والقسم الذي أداه هناك نفذه بعد أشهر قليلة بشنه الحرب على إيران والتي إستمرت لثمانية أعوام دفع العراقيون جرائها ثمنا غاليا..

قد لا أخالف الحقيقة إن قلت بأن إنهيار العلاقة السياسية بين إقليم كردستان وحكومة المالكي فيها جزئية تتعلق بالمزاج الشخصي من الطرفين،فهناك الكثير من التصريحات صدرت عن بعض السياسيين تطرقت الى وجود خلافات شخصية بين المالكي ومسعود بارزاني أدت الى تخريب العلاقة بين الإقليم والمركز، وهذا ما لن نتأكد منه إلا بعد سنوات طويلة.

والمشكلة أن السياسة التي يرسمها بارزاني بإعتباره الحاكم المطلق لإقليم كردستان وبإعتبار حزبه يتصرف كونه الحزب القائد في كردستان تنعكس تماما على نحو ما في قرارات ومواقف حكومة الإقليم وإداراتها ،خاصة لجهة رسم السياسات والعلاقات الداخلية والخارجية.. فعلى سبيل المثال إذا قرر بارزاني أن يحسن علاقته مع تركيا فلا يحق لأحد أن يعترض على ذلك، رغم أن معظم قراراته بهذا الشأن هي قرارات تؤخذ من منظار مصلحة حزبية، وإلا فإن الغالبية العظمى من الشعب مازالت تنظر الى تركيا كدولة معادية &للتطلعات الكردية، بل أنها وقفت متفرجة كما رأينا مؤخرا في الحرب التي يشنها داعش ضد كردستان والتي كانت قاب قوسين أو أدنى من إحتلال أربيل العاصمة، ولا ننسى طبعا موقف الدولة التركية من القضية الكردية هناك، وكذلك من معظم الثورات الكردية المندلعة في أجزاء كردستان الأخرى. إذن ليست هناك أية مصلحة قومية في تقارب قيادة الإقليم مع تركيا الى حد توقيع إتفاقات إستراتيجية والإنجذاب الكامل نحو تنفيذ الأجندات التركية المشبوهة بالمنطقة.

التصريحات التي أدلى بها رئيس حكومة الإقليم نيجيرفان بارزاني حول عدم وجود ولاء لدولة العراق تمثل بكل تأكيد موقف حزبه من قضية الإنتماء الوطني على الرغم من أن حكومته التي يقودها لأربع ولايات متتالية منذ سبعة عشرة عاما عجزت عن إدارة شؤون الإقليم من دون موارد العراق ولو لشهر واحد. فمع قطع الميزانية المخصصة لكردستان من موازنة الدولة العراقية العام الماضي إرتبكت أعمال هذه الحكومة وأصابها الشلل التام بسبب عدم وجود أية أموال لإدارة شؤون الإقليم، فحاولت حكومته في غياب التمويل المركزي بإثقال كاهل الشعب بالضرائب والرسوم لتدبير رواتب موظفيها، فرفعت أسعار الوقود بنسبة مائة بالمائة، وفرضت رسوما إضافية وضرائب جديدة على المواطنين لضخ الأموال للخزينة الفارغة، حتى النفط المصدر من كردستان والذي كان أساس الخلاف القائم بين الإقٌليم والمركز لم تتمكن الحكومة من إستخدام عوائده لسد العجز الحاصل بميزانية الإقليم..

منذ ظهور الخلاف النفطي بين الإقليم والمركز يلاحظ بأن الهجمات والتصريحات النارية التي تبودلت بين وزير الموارد النفطية بالإقليم آشتي هورامي وبين وزير النفط السابق حسين الشهرستاني أخذت بدورها طابعا شخصيا، كالخلاف القائم بين نوري المالكي ومسعود بارزاني، وأن ردود الفعل التي نجمت عن تعاظم تلك الخلافات وأهمها قطع رواتب موظفي الحكومة بكردستان دفع ثمنها المواطن البسيط.

فبحسب المعلومات التي حصلنا عليها فإن الإتفاق الذي وقع بين الحكومتين عام 2013 كان يقضي بقيام حكومة الإقليم بتصدير 250ألف برميل من النفط مقابل إلتزام الحكومة المركزية بإرسال حصة الإقليم من ميزانية الدولة البالغة 17%، وكان هناك جدول زمني يحدد شهر كانون الأول من عام 2013 موعدا لبدء تصدير النفط، لكن حكومة الإقليم لم تصدر النفط وأخلت بالإتفاق ما دفع الحكومة المركزية الى إعطائها مهلة شهرين إضافيين ريثما تلتزم حكومة الإقليم بتعهداتها لكن ذلك لم يحصل، فإضطرت الحكومة المركزية الى وقف إرسال حصة الإقٌليم إعتبارا من 1/3 من عام 2014 ما خلق تلك الأزمة الكبيرة بميزانية حكومة الإقليم وهي الأزمة التي أوقفت الحياة تماما في كردستان طوال أشهر العام الماضي..

طبيعة الدكتاتوريات في كل أنحاء العالم هي التعالي والتكبر، وبفعل النرجسية التي يعاني منها الدكتاتور مرضيا، فهو يعتبر نفسه فوق الجميع وفوق كل شيء. فهل كانت عبادة الذات وتأليه النفس يسمحان لدكتاتور مثل صدام أن يلتزم بإنتمائه العروبي القومي؟. ألم يغزو الكويت ويهدد دول الخليج بجعلها محافظات تابعة لجمهورية البعث؟. ألم يعتدي على أراضي إيران بعد أن إستعاد جميع الأراضي التي تنازل عنها بمعاهدة الجزائر بطوع إرادته؟. إذن لاحدود أمام الدكتاتور،ولا إنتماء أو ولاء &يمنعانه من توسيع رقعة حكمه وسيطرته على الشعوب والأمم.وهكذا فعل جميع الحكام الدكتاتوريين عبر التاريخ من جنكيزخان الى سللاطين آل عثمان الى هتلر وغيرهم من الطغاة.

من ناحية ثانية فإن الدكتاتور في جميع أنحاء العالم يعتبر نفسه فوق القانون، ففي العراق رأس صدام حسين مجلس قيادة الثورة الذي كان يتمتع بصلاحيات دستورية بإصدار قرارات لها قوة القانون، ولم يكن بحاجة مطلقا لإصدار القوانين عبر المؤسسات التشريعية، وهنا في كردستان فإن رئيس الإقليم يمتلك صلاحية إصدار قوانين العفو عن المحكومين والمدانين بين فترة وأخرى، فبعد كل قانون للعفو تجد الآلاف من مرتكبي الجرائم يخرجون الى وسط المجتمع ومنهم من يعيد إرتكاب جرائم أبشع مما حكم عليها، أليس هذا إنتهاك لسيادة القانون الذي أقسم رئيس الإقليم أن يحترمها أمام ممثلي الشعب؟.

قرار الحرب هو من أصعب قرارات الدولة وعبر التاريخ، لأن مثل هكذا قرار يجر على الأمم والشعوب المآسي والويلات والدمار وخراب البلدان والعمران، لذلك فإن معظم دساتير الدول الديمقراطية تحصر إصدار هكذا قرارات بمؤسسات تمثل الشعب كالبرلمان أو المجالس الوطنية، ولكن من إستطاع أن يمنع صدام حسين من إصداره لقرار الحرب ضد إيران أو غزوه لأراضي الكويت؟.

يروي الكاتب العراقي الكبير خالد القشطيني في مقال له" ما جرى لسكة حديد لنينغراد - موسكو. فهذا الخط يمتد باستقامة تامة حتى إذا اقترب من موسكو انحرف جنوبا لعدة أميال دون أي مبرر جغرافي ثم يستقيم ثانية. تحير الناس في أمر هذه الانحرافة. ولكن بعد سقوط السوفيات، انكشف سرها. بني هذا الخط بأمر ستالين. استدعى مهندسي السكك وقال لهم أريد خطا مباشرا مستقيما من لنينغراد إلى موسكو. قالوا له هذا غير ممكن على أرض متعرجة. فقال لم لا؟ هاتوا الخريطة والمسطرة. فجاؤه بهما. فوضع المسطرة على الخريطة وأخرج قلمه ورسم خطا مستقيما بين المدينتين. ولكنه طبعا احتاج إلى تثبيت المسطرة بأصابعه على الخريطة بحيث خرج إبهامه عن المسطرة قليلا. فلما رسم الخط، انحرف قليلا عندما اصطدم بإبهامه فعمل قوسا حوله. ثم سلم ستالين الخريطة، وقال: نفذوا هذا الخط. فنفذوه بالضبط. وأصبح انحناء الخط حول إبهام ستالين هو الانحرافة الكبيرة التي يقوم بها القطار قبيل وصوله الى موسكو".

في العراق قيل في أوج حكم الدكتاتوربالثمانينات " إذا قال صدام قال العراق".

وفي كردستان تجد عضوا بمجلس إدارة محافظة أربيل يقول" من أراد أن ينطق بإسم رئيس حكومة الإقليم نيجيرفان بارزاني ، عليه أولا أن يتوضأ"؟؟!

هكذا تخلق الدكتاتوريات، وهكذا تضيع البلدان والشعوب..

&

[email protected]

أربيل/ كردستان العراق