بعد مشاهدتي لمنظر الجريمة البشعة (أعني قتل المرحوم “معاذ الكساسبة” حرقا حتى الموت) التي تقشعر منها الأبدان وتنفطر منها القلوب وترفضها الأنفس البشرية السوية، قلت لنفسي لماذا لا تبحث في التاريخ القديم عن أول من سن حكم حرق الأحياء كعقاب للمذنبين. بعد البحث الطويل لم أحصل إلا على هذه الرواية المعنونة "الثور النحاسي" التي تقول:

"في القرن السادس قبل الميلاد، كان الطاغية "فالاريس" حاكم اليونان القديمة يريد أداة تعذيب وإعدام مبتكرة، غير مسبوقة ولم يكن مثلها من قبل، وقد حقق له الحكيم "بيريلاوس" الأثيني أمنيته فابتكر "الثور النحاسي" الذي كان تحفة فنية ميكانيكية. كانت الآلة مصنوعة على شكل ثور بالحجم الطبيعي، ومجوفة من الداخل ولها باب تدخل منه الضحية، ثم يتم إشعال النار أسفل الثور إلى أن يصل إلى درجة الإحمرار. كما كان الثور مزود بأنابيب موسيقية لتضخيم حدة صراخ الضحية. بعد أن إنتهى "بيريلاوس" من إختراعه، عرضه أمام الطاغية الذي أراد أن يثبت كفاءة الإختراع، ومن ثم أدخل الحكيم إلى الثور وأشعلت النيران تحته. فيما بعد تحول هذا الثور إلى جحيم لكثير من المذنبين والأبرياء على السواء.

سأورد في هذه المقالة تعليق بعض رجال الدين على هذه الجريمة البشعة، لأن هذه المقالة المتواضعة موجهة لهم:

1. قال شيخ الأزهر "أحمد الطيب"، إن الإسلام حرم قتل النفس البشرية البريئة، حيث قال تعالى: ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق. واضاف الإمام الأكبر في بيان له، "النبي (ص) لعن هؤلاء حيث قال: "الإنسان بنيان الرب ملعون من هدمه". وحرم كذلك التمثيل بالنفس البشرية سواء بالحرق أو بأي شكل من أشكال التعدي عليها حتى في الحرب مع العدو المعتدي، حيث كان الرسول (ص) يوصي أمراء الجيوش بقوله لهم: "أغزوا ولا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا". وختم شيخ الأزهر بيانه بقوله أن هذا عمل خبيث تبرأ منه كل الأديان.

2. قال رئيس المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية الأسبق، "محمد الشحات الجندي": إن الإسلام يحرم سفك الدماء أو القتل بأية طريقة، واوضح أن الله يقول عن حرمة الدماء "ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما".

3. الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية "محيي الدين عفيفي" قال: إن الدين الإسلامي يرفض هذه الأفعال جملة وتفصيلا، واضاف في تصريحه: نحن أمام تنظيم مجرم، وهؤلاء حكموا على انفسهم بالكفر من خلال الأعمال الإجرامية التي يفعلونها، ولا يمتون إلى الإسلام بصلة ونزعت من قلوبهم الرحمة".

4. نائب رئيس الدعوة السلفية "ياسر برهامي" وصف حرق المرحوم "معاذ الكساسبة" بأنها: "جريمة شنعاء، لم تراع حرمة المسلم ولا حرمة التعذيب بالنار، فهي جرائم متعددة بعضها فوق بعض، حيث قال النبي (ص): "لا يعذب بالنار إلا رب النار". كما صح عن النبي الكريم (ص) أنه "نهى عن المثلة في الكفار، وهذا في الكفار الحربيين، فكيف بالمسلمين".

5. الداعية السعودي "سلمان العودة" هاجم طريقة القتل بقوله: "ان الإعدام حرقا جريمة نكراء يرفضها الشرع أيا كانت أسبابها، وهو مرفوض سواء حدث في حق فرد أو جماعة أو حتى شعب، مستشهدا بالقول المعروف "لا يعذب بالنار إلا الله".

شيوخنا الكرام، كلامكم كله جميل ومعروف لجميع المسلمين منذ قرون، ولكن أما قرأتم التقارير الصحفية البريطانية التي تشير إلى أن تنظيم "داعش" نفذ جريمته بناء على فتوى شرعية صادرة من "إبن تيمية". تقول الفتوى المشئومة: "فأما إذا كان في التمثيل الشائع دعاء لهم إلى الإيمان أو زجرا لهم عن العدوان فإنه هنا من إقامة الحدود والجهاد المشروع". وللدفاع عن هذه الفتوى، ذهب بعض من يطلقون على أنفسهم "أهل العلم" في عصرنا الحاضر إلى القول: "أن الحرق بالنار محرم في الأصل، غير أنه يجوز عند المماثلة، في إشارة إلى الحروق التي تتركها قنابل الطائرات الحربية التابعة لمقاتلات التحالف الدولية بأجساد مسلحي تنظيم داعش". أليس هذا التبرير يعني تأييدا صريحا لما قام به تنظيم داعش؟&

أما "عبد الله النجار" العميد السابق لكلية الدراسات العليا بجامعة الأزهر، فقد نقلت عنه وكالة أنباء الأناضول، قوله: "إن إستناد "داعش" على قول "إبن تيمية" هو إستناد باطل لأن هناك أقوالا وضعت في التراث تناسب أزمنة وضعها، والأحكام الفقهية التي أطلقها "إبن تيمية" وافقت الزمان الذي وضعت له، حيث وضعت في حالة حرب بين المسلمين والتتار، وإستخدام البعض لها يحدث هزة للمجتمعات الإسلامية". سيدي، أنت بهذا القول تؤكد صحة وجود هذه الفتوى التي يتكتم عليها حاليا أكثر المشايخ ربما خوفا من ردة فعل الشعوب المصدومة. أما قولك أنها كانت تناسب زمانها، فأنت تعلم يقينا أن أغلب المسلمين يعتبرون كل فتاوى "إبن تيمية" صالحة لكل زمان ومكان ولا يأتيها الباطل من أية جهة من الجهات الأربع، كالقرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة.&

أما بخصوص قول شيخ الأزهر أن هذا العمل الإرهابي الخسيس يستوجب العقوبة التي أوردها القرآن الكريم لهؤلاء البغاة المفسدين في الأرض الذين يحاربون الله ورسوله، "أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف". مع إحترامي وتقديري للشيخ الجليل، إلا أني أخالفه الرأي في تطبيق حكم هذه الآية الكريمة لكثرة ما إستخدمها الحكام المسلمون الظالمون على مدى قرون طويلة وحتى يومنا هذا ضد كل ما ثار على ظلمهم وتعسفهم.&

شيخي الجليل، نريد أن ننتقل من ثقافة حز الرؤوس، وقطع الأيدي والأرجل، وجدع الأنوف، وسمل العيون، إلى ثقافة القصاص الحضارية والأكثر إنسانية حتى للمجرمين أنفسهم. لا أريد أن يفكر القراء أني ضد حكم الإعدام، أبدا، بل أن من يصدر بحقه حكم بالإعدام بعد حصوله على محاكمة عادلة، يمكن تنفيذ الحكم ولكن بطريقة تحترم إنسانيته.

شيوخنا الأفاضل، مأساتنا الكبرى هو أننا ومنذ قرون طويلة ونحن نغرف من هذا التراث الفقهي الظلامي الذي أودى بنا إلى الهاوية، وجعلنا في حالة حرب مستمرة مع بعضنا البعض، ومع شعوب العالم شرقا وغربا. ولا مخرج لنا من هذا النفق المظلم إلا بمراجعة هذا التراث الفقهي بغرض تنقيحه وتطويره ليلائم هذا العصر ومستجداته. القرآن الكريم هو كلام الله ولا يجرأ أحد على المطالبة بتغييره، أما الفقه فهو عمل فكري بشري قابل للخطأ والنقصان، ويلزم مراجعته وتطويره ليتماشى مع التطور الطبيعي لحياة الناس وحاجاتهم التي تتغير وتتطور بإستمرار، وهذ سنة الحياة التي سنها الهع جلت قدرته وعلا شأنه.

آخر الكلام: رحم الله المرحوم "معاذ الكساسبة، وغفر له وأسكنه فسيح جناته، وألهم أهله وذويه الصبر والسلوان.&

&