ايران تخشى الهدوء، والعرب يغذونها بالصخب، ويوفرون لها البيئة المناسبة. هذه الحقيقة التي يصر العرب بعنجهية عمياء على تحاشيها، ويظنون أن التصعيد مناسب لهم، لكنه كما الحروب اختصاص نظام يمزج بين الدولة والثورة.

ان تجربة الحرب العراقية الايرانية الطويلة، والتي وقفت أغلب النظم العربية خلفها خوفا من تصدير الثورة، لم تدمر ايران بل قوّتها. دخلت الحرب نظاما ثوريا، وخرجت منها بنظام عسكري ودولة مكتفية... فكانت التسعينات فترة ازدهار. لكن طهران، في التسعينات الصامتة والمستقرة، ظلت حملا وديعا، شهدت فترتي رفسنجاني وخاتمي المعتدلة، لأن الحرب اشتعلت في مكان آخر، في الجوار العراقي تحديدا، وانشغل الجميع عنها. عالج النظام شؤونه الداخلية، وترتيباته الاقتصادية، وشهد فترات انفتاح جيدة على ألمانيا وبقية البلدان الاوربية، وتواصلا دبلوماسيا واقتصاديا مع بلدان اسيا الوسطى والقفقاز وافغانستان ما قبل طالبان.

دخلت الولايات المتحدة الحرب في افغانستان والعراق، فاستفادت ايران من سقوط نظامين معاديين على جانبي حدودها، الا أنها بقيت حذرة رغم الدور السياسي البارز بوصول حلفاءها في بغداد الى سدة الحكم، وبقيت سياسة خاتمي تعتمد التهدئة. حتى بدأ النزاع مجددا مع الولايات المتحدة وحلفائها على الاراضي العراقية، فانطلقت ايران حينها، ووصل أحمدي نجاد الى الحكم ليمثل الصوت المتطرف المنسجم مع مرحلة الحرب الجديدة.

خلال السنوات الفائتة اعتمدت البلدان العربية وتركيا على ترك العراق يواجه الحرب ضد تنظيم القاعدة لوحده، او دعم غير معلن ومعلن للتنظيم الارهابي. أغلب الدول المجاورة بنت موقفها على قاعدة "عراق مشلول بالحرب خير من مستقر". والاعتقاد السائد ان وضعا مثل هذا سيضر الحكم العراقي القريب من ايران، او بالاحرى يضر حلفاءها، اعتقاد واهم. نظام ولاية الفقيه استفاد من الحرب، عراق مدمر اقتصاديا، مرفوض من قبل الجوار العربي، سيقع ضمن نطاق نفوذه، فلا توجد فرصة للحلفاء المترددين سوى الاندفاع بقوة نحوه في ظل صراع المحاور المحتدم في الشرق الاوسط.

وليس مصادفة أن التصعيد الحاصل منذ تفجر احتجاجات الربيع العربي ثم ما لحقها من تطورات أمنية وعسكرية، أن يأتي لصالح ايران اكثر من سواها، فهي تستفيد من تحويل الساحات المستقرة الى مناطق حرب، رغم أن الكثير من بلدان المنطقة اعتقدت انها تحقق انتصارا بمحاصرة الجمهورية الاسلامية في مناطق نفوذها التقليدية، وتحديدا في سوريا ولبنان. والان يتكرر الخطأ مع داعش، التي تمددت داخل سوريا ثم انتقلت لتحتل الموصل وصلاح الدين واجزاء من الانبار، وكانت بعض الاطراف تعتقد أنها الاداة المناسبة لصد النفوذ الايراني وحلفاءه، فاذا بالحرب هذه المرة ايضا تخدمه. ظهور قاسم سليماني العلني المتكرر في العراق، رسالة مفادها "نحن تخوض الحرب ونتمدد ولا نخجل من وجودنا" لتفرض نفوذها على مناطق جديدة لم تكن ضمن محيطها. ان من دعم داعش، وواضح ان وراءها اطراف عربية وتركية رسمية أو غير رسمية، قد نفعت ايران، لأنها صنعت لها الارض الخصبة متمثلة بالحرب، لتغذي نزعة النظام الباحثة عن فرص التمكن.

الفرق بين جارة "البوابة الشرقية" والبلدان العربية ليس بكمية الشر في السياسات الخارجية، انما بالادوات القادرة على الترويج لهذا الشر، ونشره. الدولة الثورية منذ البداية اعلنت تنصلها عن الشرعية الغربية، بدأت مشوارها بسلوك ثوري واستمرت عليه، ولا تخضع للقوانين الدولية الا عندما تشعر بتهديد كبير لنظامها في حال عدم الالتزام، بينما أغلب البلدان الرئيسية في الشرق الاوسط تعتمد السرية في خرق تلك القوانين، فتدعم بشكل سري الظواهر والتنظيمات الشاذة، ثم تتنصل منها عندما تشعر بان الامر له تداعيات دولية. لذلك هي حرب عاجزة، والاعتماد عليها ضد ايران لها ارتدادات عكسية.

الحرب الاعلامية والسياسية ضد ايران لا تثير اهتمامها كثيرا، فهي ليست داخل اراضيها، بل في مساحات جغرافية عربية، وهي ايضا تساعدها على ان تتوسع لأن الخصوم لا يمتلكون الكثير من الادوات. انها لا تتوانى عن تقديم الدعم لحلفائها علانية، وتستدرج مصارعيها الاقليميين للتصعيد الذي لا يمتلكون قرار ايقافه، الا بمزيد من الخسائر والتنازلات.&

ان المقاربة بين ايران واسرائيل في خطاب الدول والنخب العربية، ينبغي ان يستعيد الفشل المزمن في المواجهة مع نظام تل ابيب، الذي استفاد من الحروب الاقليمية كثيرا، بما في ذلك الحروب ضده... والكثير من البلدان التي رفعت ذات يوم شعار الحرب، تلين اليوم، خوفا منها. فلماذا تستمر ذات السياسة بفشلها المجرب؟. هذه "اللماذا" جوابها سهل جدا، ان بلدان المشرق العربي مسكونة بالنظرة الطائفية للصراع، وعاجزة عن فهم التعدد المذهبي الذي يعني بالضرورة تعددا سياسيا. وهي في الوقت ذاته عاجزة عن مواجهة خصم يعتمد اكثر من نظرة، ويستخدم اكثر من خطاب.
&