&رحيل الشاعر العراقي وليد جمعة في منفاه – وطنه في الدنمارك نقرأ في رحيله أحزان كل مثقفي العراق. لم يكن وليد جمعة شيوعيا، وما كان وجوديا ولا عبثيا متمرداً، لم يكن من رواد ما يطلقون عليه مقهى المعقدين حتى وإن كان من جلاسه. لم يعرف الأحزاب ولا يعترف بالأملاءات. ولكن حين رحل الحزب الشيوعي العراقي بعد إنفكاك ما يسمى بالجبهة الوطنية العراقية وأخذ معه كوادره الثقافية في نهاية السبعينات وأستقروا في بيروت لم يجد وليد جمعة من يتمشى معه! ولم يجد من يتخاصم معه! فقد أحس بالوحشة وحمل ذاته وذهب إلى الشام المعبر نحو حلم الثورة والتغيير في بيروت. عاش معنا في مساحة صغيرة تسمى الجامعة العربية المتواصلة جغرافيا مع مخيمي صبرا وشاتيلا. هناك كان حلم التغيير وحلم التمرد وحلم الرفض. هناك حيث يلتقي "باتريك أورغلو" مع" ليلى خالد" وهناك حيث يلتقي "وليد جمعة" مع "جان جينه".

الشاعر وليد جمعة

لو حسبنا عدد الأيام التي قضاها وليد جمعة ومثل وليد جمعة كثيرون، في العراق وبالذات في مرحلة الوعي والإدراك وكتابة الشعر وإنتاج المسرحيات والأفلام ولوحات الرسم والنحت وكتابة الأغاني والموسيقى وحسبناها مع الأيام التي أمضاها المثقفون خارج أوطانهم الجديدة لعرفنا أنهم جميعهم مروا على الوطن العراقي مرور الكرام! كانوا ضيوفا على الوطن "ويا غريب أذكر هلك"! وماذا يعمل من لا أهل له!

وليد جمعة شاعر مهم في مسار حركة الشعر العراقية، شاعر ملهم بشكل حقيقي، وهو صاحب نقد شفاهي ساخر ولاذع لأوضاع العراقيين وأحزابهم وسياساتهم يعرف ما يريد ولا يعرف ما يريد. من النوع الذي يستقبل الموت بطيئا لا يجروء على إستقباله مرة واحدة وبجرعة واحده فيخاصمه ويتحايل عليه ويلعب معه لعبة "الختيله" ويضحك عليه. وأكيد في خلوته مع الذات يبكي وليد جمعة وأكيد يبكي بكاءً دامياً مراً، فهو يشعر بالغربة الوجودية والوجدانية. هو مع الجميع لا يستغني عن الجميع لا يستغني الجميع عنه، ولكنه كان متوحداً. عبثيته وغربته لم تحفزه على جمع قصائده فهو يكتبها أو يتلوها ولا أعرف كيف يلمها. ولا أعرف اين هي في مكتبة له.. لا أظن، لأنه رمى بكتبه وبعثرها في بيروت وأهداني منها كتاب ملحمة جلجامش لطه باقر.

قيل والعهدة على الراوي أنه ذهب إلى العراق بعد سقوط الدكتاتور، وأيضا كانت أقامته في العراق إقامة الضيف فهو مثل سواه مر على "المضيف" مرور الكرام، ولذا لم تثر عودته وهو الشاعر الثر أي إهتمام في الوسط الثقافي وربما هو لا يريد ذلك. هو يشبه غريب البير كامي ويشبه عبث رامبو!

مثقفو العراق هم ضيوف في وطنهم يمرون مرور الكرام ويسافرون نحو التيه ولم يعد ثمة كيان بينهم وفي محطاتهم يتلون فيه سورة الفاتحة، ويتلون فيه شعراً لشاعر ودع أصدقائه وحيدا بسلام الوداع ولم يردوا عليه السلام.

المثقفون العراقيون لم يشاهدوا وطنهم ولم يعرفوا تفاصيل المدن وسيكولوجية المقهى ولم يعرفوا أهوار العراق حتى وأن مشى المشحوف بين غابات القصب فلم يسمعوا حفيف البردي ولا صوت الطير ولا نقيق الضفادع ليلا.. لم ير المثقفون العراقيون وطنهم بكامل التفاصيل ولم يلمسوا أعمدة شارع الرشيد لم يضعوا أرجلهم في مياه الفراتين والشاطئ ليتبردوا، ولم يلموا من النهر مياها ترطب وجوههم في قيظ الصيف. يسكنهم خوف مستديم آت من أقبية بيوت الأشباح ومن سماوات الله، خوف

أت من الناس ومن الملائكة على حد سواء، فهم لم يروا وطنهم لأن الإنسان ينظر بحريته لا بعينيه. وهم سلبت منهم حرياتهم ورحلوا من الوطن ومن الحياة دون أن نرد عليهم السلام.

الوداع بصمت لوليد جمعة في لحظة الفراق الأبدية الصعبة.