في اواسط الستينات من القرن الماضي حطّ السيد الخميني رحاله في مدينتنا النجف قادما من تركيا التي لفظتْه بتحريض من الشاه الذي كان ذا نفوذ وسطوة في منطقة الشرق الأوسط باعتباره احد الأذرع الرئيسية التي تردع امتداد النفوذ السوفياتي وقتذاك

كان بصحبته ولداه محمد (المشهور بلقبه مصطفى) ويُنادى به حتى يكاد صحبه والمقرّبون منه ان ينسوا اسمه الأصلي &محمد ، والآخر اسمه "احمد" الأقل حظوةً من أخيه ؛ اذ كان مصطفى الساعد الأيمن لأبيه
&كنّا فتية في الصفوف الثانوية وكانا يكبراننا ببضع سنين وغالبا ما نلتقي في باحة المسجد في نقاشات متفرعة أقلها النقاشات السياسية خصوصا في اول عهدهما حين أقاما وعائلتهما في النجف&
بدأ الوعي يدبّ في عقولنا ؛ وعلمْنا ان هذا " الشيوعي العنيد " كما كانوا يطلقون على الأب الخميني وأكاد اجزم انه كان من أكثر وأشد معارضي الإمبراطورية البهلوية التي نمقتها &نحن الشباب الصغار بسبب كونها أصبحت الشرطي الذي كلّفته أميركا لإيقاف المدّ الماركسي الآخذ بالاتساع ليس في هذه المنطقة بالذات بل في العالم كله وبالأخص عالم المسحوقين في الشرق &وفي أميركا اللاتينية والأقطار المبتلية بالدكتاتوريات وانقلابات العسكريتاريا ، اذ كنّا نتعاطف بشكل كبير مع الاتحاد السوفياتي وخصوصا دعمه الذي كان يتزايد لحركات التحرر الوطني حتى لو كانت اتجاهاتها قومية وقد تكون شوفينية ضيقة الافق . وهو المعروف بأمميته&
انضممنا نحن الفتية الناضجون حوله لاننا ببساطة كنا نتلهف ونسعد بايّ انبعاث ثوريّ مهما كان مصدره سواء ماركسيا أو إثنيا وكنا نزوره ونصلّي خلفه في احد جوامع النجف الشهيرة المسمّى "جامع الهندي" قريبا جدا من الصحن العلوي في بداية &محلّة وسوق الحويش الشهير بمكتباته العامة ومحلات بيع الكتب وحالما نفرغ من الصلاة نتوزع ؛ كلٌ الى هدفه فهذا الى المكتبة الشهيرة التي كانت قابعة وسط السوق وذاك الى دكاكين باعة الكتب ؛ اذ لامسرح ولا سينما ولا فنون ترفيهية فبقي الكتاب وحده هو الملاذ الاخير لنا .
لم تكن هناك اية نشاطات او حلقات درس او مناقشات في الجامع من قبل السيد الخميني والمتحلقين حوله منذ استقراره في النجف واستئجاره بيتا متواضعا شرقيا ضمن أزقّة المحلّة نفسها القريبة من الجامع الهندي لغاية عام /1968 حتى بتنا لا نأمل فائدة او خيرا او استزادةً في المعلومات &مثلما كنّا نترقب منه نحن الشباب في اول وعينا ونضوجنا&
والحقّ انه كان انطوائيا معتكفاً الاّ من جماعته وخاصّته وكم حاولنا استدراجه وإثارة التساؤلات ذات الدلالات السياسية لكنه لم يردّ عليها مقتصرا في إجاباته على الإشكالات الفقهية فيما يخص العبادات والطهارات وما شابهها&
وحالما وقع انقلاب 17/ تموز من عام 1968 وسقوط النظام العارفي ؛ تصاعدت الخلافات بين إيران الفهلوية وحكم البعث الذي مازال غضّ العود لم يمسك زمام الأمور بعد ، وكان سبب الخلاف الأساسي هو الدعم الواسع الذي كان يغدقه شاه ايران على الحركة الكردية في شمال العراق وكيف بحمَل مازال صغيرا يقوى على مقارعة ثور وعنجهية الشاهنشاه مما اضطر المسؤولين البعثيين الى مغازلة المعارضة الايرانية ضد الشاه في الداخل الايراني وسمحت لهم بالاقامة في العراق وتوفير الحرية لهم فجاءت جموع كثيرة من كل ألوان المعارضة الدينية وغير الدينية واستوطنت النجف وكربلاء في غالبيتها ومنهم اتباع السيد الخميني بأعداد لايستهان بها ومنَحهم العراق كل مستلزمات الاقامة والاستقرار نكايةً بالشاه وقد وصلت الرعاية مداها الاوسع حينما تغلغل الكثير من مريدي الخميني في القسم الفارسي من اذاعة بغداد وتقديم برامج متنوعة باللغة الفارسية كانت تصبّ كلها في مقارعة النظام الشاهنشاهي وفق منظور " من فم شعبك أدينك " وكان نصيب جماعة الخميني برنامج " النهضة الروحية " التي كانت تترقبه الشعوب الايرانية بكل لهفة&
وبإمكاننا ان نقول ان الفترة التي عاشتها المعارضة الايرانية بقيادة السيد الخميني بعد انقلاب 17 تموز في العام / 1968 &في العراق واستحواذ البعث على السلطة كانت من اكثر الفترات قوة وسطوة على الشارع الايراني المعارض ، وكل ذلك ناتج من التسهيلات الجمّة التي منحها البعثيون لها بدءا من ايصال اصواتهم وتوسعتهم اعلاميا اضافة الى دعمهم لوجستيا بالمال والسلاح والتدريب العسكري في معسكرات مخصصة لهم قريبة من النجف وتزويدهم بالوثائق الرسمية الثبوتية وجوازات السفر العراقية بعد ان حرمهم الشاه منها وكان السيد مصطفى ابن الخميني هو المكوك بين هذه الشريحة من المعارضة الايرانية وبين النخب السياسية الحاكمة في العراق لتسهيل اية طلبات يريدها المعارضون حتى وصل الامر الى التوسّط والتدخل في شؤون القضاء العراقي ... واتذكر كيف تم العفو عن المعارض السيد حسن الشيرازي المدان بالتجسس من قبل محكمة الثورة العراقية كعادة البعثيين حينما يريدون تصفية الناشطين الاسلاميين وكيف تم اصدار عفو عنه ثم اطلق سراحه بعد اقل من شهرين بأمر من نائب رئيس الجمهورية انذاك صدام حسين بالرغم من إدانته بالتجسس ، كل ذلك لانه من اتباع السيد الخميني ومن نخبة رجاله وخاصّته الاقربين&
والحق ان الشيرازي كان نشطا جدا وأرخص نفسه للدعوة الى مقارعة النظام البعثي في العراق رغم حداثته في مسك السلطة ولكن حظوة السيد الخميني لدى النظام وقتذاك ورحلات ابنه محمد ( والملقّب مصطفى ) لمقابلة المسؤولين العراقيين برحلاته المكوكية من النجف الى بغداد وبالعكس ودفع الكثير من معارضي الشاهنشاه رضا بهلوي من الايرانيين المقيمين في العراق الذين يحظون باعتبار وتقدير من ذوي النفوذ من السلطات الحاكمة في العراق فقد تم اطلاق سراحه والغاء الحكم الصادر بحقه&
وبعد فكّ إسار الشيرازي من السجن شدّ رحاله الى سوريا ولبنان في العام /1970 والتقى بالكثير من زعماء الشيعة والعلويين هناك وجمع شتاتهم ولمّ آصرتهم وكان أعداؤه يترقبون تحركاته ويقفون له بالمرصاد لتصفيته الى ان تمّ تدبير عملية &اغتياله في لبنان في العام / 1980&
توترت العلاقات بين الجانبين العراقي والايراني في العام 1970 وأصبحت التفاهمات والحوارات عقيمة لاتجدي والامال بالسلم منعدمة مغلقة الابواب بعد ان اقدمت ايران الشاه على احتلال الجزر العربية الثلاث في الخليج العربي ( ابو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى ) وقُطعت العلاقات الديبلوماسية بين الطرفين وتم سحب السفراء والعاملين في سفارتي العاصمتين وتحركت جحافل الجيش الايراني على حدودنا استعدادا للحرب وهنا اريد ان اوضح موقف الخميني امام ذلك التصاعد الخطير الذي كان منذرا بوقوع حرب شعواء ؛ هذا الرجل قد اعدّ بيانا يخاطب فيه الجيش الايراني ان يدير اسلحته بوجه الشاه واتباعه الكافرين بالقيم الاسلامية لا الى الجيش العراقي الشقيق لنا تحت راية الإسلام فالسماء ستهتز غضبا اذا سُفكت دماء الاشقّاء المسلمين من كلا الطرفين لو بدأت شرارة الحرب&
اية مفارقة وانحراف سلكه السيد الخميني بعد استلامه السلطة والاطاحة التامة بالشاه سنة / 1979 ولماذا تبدلت قناعاته واشتعلت الكراهية في اعماقه ولم يرضخ ابدا لمساعي السلام العديدة في حرب الخليج الاولى التي أهلكت ملايين النسل والحرث والزرع واليانع واليابس لثمان سنوات حربٍ مرعبة ، فالسلطة نفس السلطة والشعوب ذات الشعوب !! ، فما عدا مما بدا وما الذي تغيّر ، فهل عرَفنا في العراق وأنكرَنا وهو الوليّ الفقيه في ايران ؟؟&
هكذا هي الاثنية ورؤوسها ومزاجها وتقلباتها وتذبذب فكرها تماما كما الدكتاتورية ولعنتها وتبعاتها وتزمّتها ، كلاهما تلعبان بمصائر الشعوب وتحيلهما تمزيقا وحروبا ومجاعة واضطهادا واعاقة للسلام والتآلف والمحبة&
ففي الوقت الذي كانت علاقة الخميني وصحبه سمنا على عسل مع السلطات الحاكمة في العراق لكنها لم تكن حينها على توافق مع المرجعية الدينية الشيعية ورجالها المؤثرين طوال مدة اقامته النجفية بدءا من سنة 1965 حتى رحيله الى باريس لاجئا منفيا خريف العام / 1978 لانها ببساطة ودون اي لبس او تعمية كانت معظم ممثليها ان لم نقل كلّهم تقف الى جانب الشاه على طول الخط وترى فيه منقذا ومخلصا وساعدا ايمن للتشيع ؛ فالنجف وهي المركز الأساس للمرجعية الشيعية تنظر لكل من يقف ضد الشاه وطغيانه وجبروته وسطوته عدوّا للشيعة وتنعته بابشع الصفات حسب تصوّرها وأقلها ان توصمه بالكافر الشيوعي جزافاً وهذا هو حال الخميني ووضعه غير السوي مع المرجعية الشيعية التي خيّبت آماله ، عدا ماكان جهاز الاستخبارات والشرطة السرية الفهلوية " السافاك " وهو يراقب حركاته خطوة خطوة بالتعاون ممن باع نفسه عميلا وخادما للشاه ومنهم مجموعة من علماء الدين المعروفين في النجف وأتذكر كلماته التي قالها جزِعا مهموماً وهو يعبّر عما يجول في اعماق نفسهِ :
" لا ادري ايّة ذنوب اقترفتها حتى ابتلي بالنجف وأنا في آخر عمري !! وكلما تقدمتُ خطوة واجهتني عمائم النجف بوضع العراقيل أمام طريقي اعتراضا وإعاقةً "
اجل بقي الرجل وحيدا منطويا على نفسه ودون ان يبدي العلماء من رجال الحوزة النجفية ايّ اهتمام او رعاية له ولجماعته من المعارضة الايرانية التي كانت من اشد اعداء الشاه واكثرها نزوعا ثوريا وتحريضا على الجماهير الايرانية التي كانت ضد حكم بهلوي في الداخل خاصةً ، ولم يجد مُعينا يناصره مثلما كان يأمل حين اختار النجف مثوى له ولعائلته ومريديه فآثر الصمت والعزلة في سنوات اقامته الاولى الى ان جاء الوقت المناسب عند اشتداد العداء مع الشاه بسبب دعمه المتزايد للحركة الكردية الثائرة في شمال العراق فاستمال حزب البعث مجموعة المعارضة الخمينية وغيرها من الحركات المعارضة للشاه لاستغلالها في اضعاف النظام الامبراطوري البهلوي وتصعيد الصوت الاعلامي الايراني من اجل زعزعة الداخل والتمهيد للثورة عليه ولم يجد الخميني بُدّا الاّ التعاون مع سلطة البعث – ليس حبا به – وانما لتنفيذ غاياته واجنداته وتحقيق احلامه في سحق الشاه عدوّه اللدود باية وسيلة كانت ولو كانت من لوجستيا البعث اضافة الى ضيق المقام به في النجف وجفوة المرجعية الدينية عنه وانعزاله عنها مرغما وكأني به يستشهد بما قال الشاعر العربي :
إذا لم يكن غير الأسنّة مركبا ------ فما حيلةُ المضطرّ الاّ ركوبها&
ثم ضاق به المقام اكثر حينما صدم بموت ابنه الاكبر مصطفى بشكل مفاجئ من دون اية حالة مرضية سابقة في العام / 1977 وهو في اواسط الأربعينات من عمره وهذه الحادثة قد أوصلته الى حدود من الجزع مما لاطاقة له باحتماله حتى ثارت ثائرته وتوجّس ان هناك مؤامرة للنيل منه ومن اولاده لاجل تصفيته وكنا نسمع هنا وهناك من طراطيش كلام بان محمدا مات مسموما على يد السافاك من خلال ذيوله المنتشرة في انحاء النجف وأصرّ السيد الخميني بعد التشييع على ان يدفن في الصحن العلويّ خلافا لأوامر الدولة التي تمنع نهائيا حفر ايّ قبر داخل حضرة الامام عليّ مهما كانت شخصية المتوفى لكن إصرار الاب &المفجوع على تنفيذ إرادته أرغمتْه على توجيه رجاء الى السلطة العراقية المتمثلة في شخص صدام حسين يوم كان نائبا لرئيس الجمهورية فوافق على دفن جثته وفق ماشاء الخميني نفسه&
هكذا كانت السلطة العراقية وحزب البعث يقفان مع المعارضة الخمينية في الوقت الذي تخلّى عنه وعن مريديه كبار رجال المرجعية الدينية النجفية وحتى الاحزاب والتكتلات الدينية بما في ذلك حزب الدعوة الابرز معارضةً ولم يقفوا في صفوفه او يتضامنوا مع توجهاته ذات النزوع الثوري المعارض للشاه طيلة سنوات المنفى في النجف التي تزيد على الثلاثة عشر عاما&
وحالما انتصرت الثورة الايرانية بداية العام / 1979 ؛ تداعى هؤلاء الاخوة الاعداء زرافاتٍ ووحدانا الى مكان اقامة القائد الروحي السيد الخميني ممن كانوا يدّعون تمثيل مرجعية النجف للتهنئة بانتصار الثورة بعد هرب الشاه والتطلّع لمقابلته وتقبيل يديه ولكن الخميني بعد عودته من باريس أبى ان يستقبل ايّ احد منهم وفيهم قادة بارزون ضمن حزب الدعوة ايضا ، بل وحتى ان بعضهم مُنعوا من دخول الاراضي الايرانية نهائيا لشكوكٍ في علاقتهم بالسافاك &الشاهنشاهي كأعضاء دائميين ومنهم ذيول له وكأني به يعرف تماما هؤلاء الذين ينقلبون على أعقابهم من نهّازي الفرص والمتلوّنين المائلين مع الريح السياسية أينما اتجهت وحيثما أزفت&
&
&