&

1&

قد لا يستوعب الكثيرون أو لا يرغبون - على الأصح- تقبل فكرة أن مسار البشرية في بداياتها الأولى، وبالأخص في جانبها التحرري قد كان وليد الأديان، ولن نبالغ في التحيز فنقصر الأمر على الأديان، لكنها قامت بدور يستحق التقدير؛ حيث أسهمت على سبيل المثال في انتشار الكتابة وتقديس الكتب والحكمة، وأسهمت في بروز المدن والحواضر بناء على تشكل التجمعات الدينية الأولى، بل وأطلقت الشرارة الأولى للانعتاق والحرية على صورة فكرة خلاص فردية، ستكون بداية رمزية للاحتفاء بالفردانية في بعدها الإنساني، وأقصد الفردانية في دلالتها الإيجابية، لا ما تحملته من تأويلات مسطحة وساذجة في محيطنا العربي/الإسلامي، وهي الفكرة التي عبر عنها بوضوح كبير المفكر المغربي محمد عزيز الحبابي الذي يقر بأنه ".. بفضل الدين الجديد، [يقصد الإسلام] حصل انقلاب جذري في ذهنية ووجدان العربي: فعوضا عن أن يبقى العربي فردا يذوب في القبيلة، داخل اتصال أفقي، صار شخصا يشعر بشخصيته في ذاتها، ويتصل، عموديا بكائن مطلق، الخالق المتعالي الذي سوى بين العربي والعجمي" .&

&أقامت الأديان للمرة الأولى في تاريخ الإنسانية وزنا للمصلحة الإنسانية وجعلت الأخيرة تدافع عن مصالحها مستندة لحافز ديني ظاهر منحها الكثير من الشرعية في مسارها هذا، ولنا في علم "مقاصد الشريعة" عند المسلمين مثال مهم أيضا؛ إذ مثل عقلية لطالما حاولت تنظيم المصالح وفلسفتها ونقاشها ضمن الدائرة الدينية، بهدف دمجها الفاعل داخل الدائرة الاجتامعية الأكبر، ومحاولة التركيب بين ما اصطلحوا عليه بمسميات مختلفة من ضروريات وحاجيات وتحسينيات وغيرها من أقسام المصالح الممكنة حينها، إلى ما غير ذلك من المفاخر التي تُشرف تاريخ الأديان، وتدعونا للتفكير بعمق في مواقف الامتعاض التي بالغنا في توجيهها نحون دائرة المعتقد الديني.&

لا تحتاجنا الأديان اليوم في الدفاع عنها، حقيقة – ينبغي التقرير بداية - لا غبار عليها، وإلا لانتصرت عليها كل قوة وبراعة السوفييت، ومن بعدهم العالم الجديد في جزافية حربه العلمانية الأولى، معارك ختمت حسب بعض من خلاصات الانتروبولوجي الأمريكي كليفورد غيرتز بعودة الديني في ألبسة قشيبة وجديدة، ولهذا استرعى اهتمامه بأن العلوم الاجتماعية تحتاج إلى صياغة مفهوم جديد للدين ودوره في المجتمع، مفهوم يستفيد من مآزق العلمنة ويمتلك قدرة تحليلية أكبر للديناميات الدينية في زمن العولمة .&

بمعنى أن الأديان تتقن هذه اللعبة – المتوهمة - جيدا، وتؤمن بمعاودة الظهور بعد كل جحود قد يقابلها به الكائن البشري في جزء من حملات تمرده على ما يعتقده سيطرة مطلقة لها على مستقبله وفضاءاته العامة وروح العالم الذي اعتقد الكثيرون أنه قد طبعته لغة السحر في كل تعابيره، لذا، سخّر هؤلاء – الأنبياء الجدد - الكثير من جهودهم لإنقاذنا – مشكورين !! - ورفع الغموض عن العالم، عالمنا الذي نعتقد أننا نتملكه، وليس في الأمر غرابة فالكائن نزاع للاعتقاد بتملك كل شيئ، بما فيه العالم، وأن أيقن عدم القدرة على ذلك.&

2

الطرافة في المسألة مقولة أن الأديان لا تحتاجنا، وبنوع من الأنفة الذاتية – التي تميز نوعنا - لا نحتاجها، إذن فكيف لنا تقبل فكرة انسجامنا، الإنسان والأديان. قد يعتقد الكثيرون أن العملية بأكملها تحذلق لغوي، وسفه معرفي يحاول عدم التحيز لأي جهة كيفما كانت، أي ادعاء، محض ادعاء وتقول.&

قد يكون الأمر كذلك، إن كانت المسألة ستجعل الكائن في رضى عن نفسه، وفي رضى عن الأحكام التي يتقن تلفيقها للأخرين. لكن بعيدا عن كل هذا الهراء الذي أضاع أعمار شعوبنا ويراع الحضارة فينا، نقول بأن المسألة تقتضي انسجاما ينبغي لنا شرحه، استيعابه، والتعبير عنه بلغة أكثر مقبولية مما سبق.

لذا، فقصدنا من عبارة عدم احتياج أي من الطرفين الإنسان-الدين لبعضهما، يكمن في اعتبار أن لا انفصال للكائن في معاشه وعالم شهوده عن الدين، عن الفكرة الدينية، ولنتقبل مبدئيا فكرة أننا مستلبون لهذه الأخيرة، استلاب لا يعني العبودية، استلاب توافقي حسب لغة سياسيينا البؤساء. نتوافق بما يخالف معهود توافقاتنا اليومية، وذلك بأن يُؤّمن لنا ما هو فوق قدرات هذا العقل الذي نمتلكه، كما يؤمن لنا دوافع الاستمرار، دوافع الحياة ودوافع الطمع في الأحسن، ويبرر شرعية البقاء والانتماء الإنساني.

&لقد جعلت الأديان – مثلا - من الطمع (الدعاء) فكرة نبيلة، طمع في حيازة المستقبل، الذي وإن جعلتنا نتقبل أنه - المستقبل - صناعة إلهية، لكنه ممكن أن يندمج وصناعتنا، بمعنى قدرتنا، ولنقل بلغة أوضح جعلتنا الأديان ولأول مرة في تاريخينا نعتقد بالقدرة على تصحيح مسارات الأمور؛ بمعنى أن يصير لخطونا مسار له عواقب جمالية. دون افتراء إنها حياة كبيرة نتلقفها ولا ينبغي لنا باعتبارنا طماعين ضعفاء تضييعها، إنه بلغة عمر بن الخطاب فرار من قضاء الله وقدره إلى قضاء الله وقدره.&

ينبني توافقنا كذلك على فكرة اللا انتهاء والأبدية، تلك القصة الجميلة التي يحب الإنسان سماعها، وإن أشبعها سبابه المعرفي والعقلاني، لأنه يكره النهايات، فالامتلاء رغبة متملكة لكيانه، رغبة ضعيفة تتقوى عبر توافقاته الدينية.

3

عندما نجعل الأمور تعبر أمامنا بعيدا عن سردياتنا المتخيلة عن ماضينا، والتي ألفنا سماعها وفق تركيب افترضناه في لحظات إرهاص معرفي جارف غمرنا. عندما تتسربل الأمور بصور أخرى فإن الأديان لن تكون إلا حليفا قويا لنزوع الفرد نحو تثمين انتمائه لروحه، انتمائه لذاته، فالأديان جعلته يوقن أن تفكيره وتعبيراته الجوانية فيما بينه وين نفسه ذات قيمة هامة، نزوع جواني أسمته الديانة الإسلامية – مثلا- "النية"؛ فليست الأخيرة بالفكرة المشؤومة أو أصوات الحلم فينا أو المرض أو الخرف، بل جلعت الأديان "النية" حقيقتنا التي نواجه بها حقيقتنا، روحنا تحدث السماء في مصارحة أولى بينهما. إذن، فالأديان أوسعت عوالمنا الأولى، وجعلتنا نعيش فوق ما يمكن لنا استيعابه، عوامل تتجاوز المادة وتتجاوز كل قدرات خيالنا الخلاق. فلا يمكن لنا أن ننكر من ثم قيمة الأجنحة الكثيرة التي تحف تعاستنا المادية الصرفة، أجنحة الملائكة وأجنحة البراق، وأجنحة الشياطين، وأجنحة نياتنا، وأجنحة الأحلام، وأجنحة الوحي، عوالم محلقة جعلها الدين تحفنا بود وتضمن لنا عدم توقف مداركنا عند حدود ما نلحظه بالأعين المنتسبة لمكان وزمان وحيز معلوم.

لا يمكن لنا المبالغة في الجحود والتنكر، نعم يحق لنا التذمر من كم هذا الجميل الذي تعطف به علينا يد الدين، لكن لابد أن ننتهي إلى قرار، وإن لم نعبر عنه، فسينقال عبر معاشنا المعتاد، مقول مفاده ضرورة استنزاف واغتنام كل هذا النفع والصلاح والجمال وإن لم نشكر، لأننا الكائن الذي يحسن التنكر والتنطع واللامبالاة، والاستفادة في الآن نفسه والتظاهر بعكس ذلك. للأسف هو أمر تقوله عنا الأديان كذلك، وإن لم تعجبنا فكرتها عنا، لكنا نتقبلها حينما نخلوا لأنفسنا، فنسمع أنين ترهاتنا وعجرفتنا الضعيفة، كما تقول عنا غير ذلك كي لا نجحفها حقها.

4

الجميل في الفكرة الدينية، رغم كل هذا الجزاء الذي لا ينتظر منا مقابلا، أنها تتقوم بنا، فنحن حسب هذه الأخيرة "قيمة" تتقوم بنا كل أشياء العالم. نعم فهي تحمل قيمة في ذاتها، حسنها وبراعتها ولا محدوديتها بعيدا عنا، لكن نحن نمنحها الانفعال اللازم بنا، لتصير للزمن قيمة الحدث، وتصير للمكان قيمة الصور والتمثلات. وهذا ما عنيناه بكوننا قيمة توافقية مع الفكرة الدينية، تتمازجان في كل معقّد تقصر عن تفكيكه جل عقولنا – مبالغة أتحمل مسؤوليتها - في كل مراحل تطورها وصياغتها.&

أن ندعي عدم الترافع عن الأديان هنا، والبراء من الأمر، إنما هو ملهاة أخرى سننغمس فيها، ومجتمعاتنا في حل عن الأمر، بل الإنسانية اليوم في حل عن مزيد من هذا الجفاء الاعتباري. نعم نترافع عن قيمة أن نتجاوز التخندق في زوايا النظر بين الدين أو اللادين، بين النحن أو الدين، بين العقل أو الدين، بين العلم والفن والتاريخ والدين..الخ. كلها عوالم مأزومة و متجاوزة اليوم، هي أفكار ونظريات بمثابة "أصنام آفلة" حسب عبارة نيتشه، تجلعنا نعبدها في المقابل وإن ادعينا نبذ فكرة الكائن المشتهي للعبادة.&

قد يكون للمسألة بعد فني أكبر، يقتضينا العيش في تقبل أنيق لتوافقاتنا والفكرة الدينية، أن نعيش الدين من داخله، فنستمع لنا من خلاله، بعيدا عن كل ما قد يقدمه لنا كهان الثقافة والمعرفة، ممن يعتقد قدرة تصوير كل شيئ، وادعاء استيعاب كل شيئ. ولعلنا محظوظون بفكرة "النسبية"، أو فكرة "الالتباس" حسب وصف توماس باور، وإلا لكنا لا نزال نحقر كل أساطيرنا وأمثالنا وتقاليدنا، ونحقر لغات رقعات جغرافية كبيرة من العالم، كما برعت في ذلك علوم اللغة في بدايات القرن، فقط لأنها – متوهمين- تمثيل سطحي وغير ذكي وغير ذات قيمة عقلية كبيرة كما كانت تصور هذه المدارس الغربية في لحظة ما.&

إذن، هي تمايزات عنصرية كنا نُلبسها أردية العقل وننطح بها كل الروح الإيجابية التي كانت تحف العالم، لكم حاولنا عبر أمثولتنا العقلية المطلقة أن نمج كل ما خالف نمط هذه الصورة والقوالب التي ارتضيناها وفق تصورنا، لا وفق ما قد تكون هي عليه أو التسامح في افتراض ذلك على الأقل. لقد عبرنا في الكثير من المرات نحو حتفنا، لكن الغنى المتوارث عن البشرية في توافقاتها والفكرة الدينية كان يهبنا فراغات للالتهاء والمناوشة إزاء هذا الفرعون "المنطقي" الذي سلب كل الموجودات قيمتها، فقط حينما تخالف نموذجه في النظر والتفكير.

&
كاتب من المغرب