منذ السيرة الاولى للانسان على هذه المعمورة وهو يمضي في ارتقائه الذي يطال مختلف جوانب الحياه ولعل عِمادها وابتدائها كان في التشريع. ففي الاسرة الاولى كان ربها هو الحاكم الذي يتولى التشريع والتطبيق تجاه افراد اسرته وذلك عندما يقدم احد افراد الاسرة على الاتيان بسلوكٍ غير سوي، او اعتداءٍ على حق غيره. كانت الفِطرة هي منطلق رب الاسرة في تقدير الحكم والعقوبة، هذه العقوية التي كانت باشكالها الاولية، من الحرمان من مزايا اسّرية او عقوبات جسدية. ففي هذه الفترة كانت الفِطرة او الغريزة هي الدالّة على تجريم الفعل من عدمه.&

ومن العدالة الأُسرية الى العدالة القبليّة بين اسرتين متخاصمتين، الى النزاع بين قبيلتين، تتولى اكبرهما امر العقوبة. تراوحت العقوبات بين نفيٍ او ماديةٍ من تعويضات وظهور نظام الديّة او جسديةٍ من تسليمٍ للجاني، ليقتص منه المجني عليه او ذويه و كيفما شاؤوا ودون ضوابط. وفي العموم كان امر العقوبة يرتبط بقوة المجني عليه ودافعها الانتقام والتشّهير.

تقدمت البشرية وتطورت مجالات الحياة جيلاً بعد جيل، فبرزالمجتمع وبرزت الدولة التي اخذت على عاتقها مهمة اقامة العدل، بديلاً لفكرة الانتقام القبلي او الاسري او الشخصي، وبرز هنا مفهموم الردع العام واخذت الدولة تستأثر مهمة التشريع وتطبيق العقاب، من خلال موظفين مختصين لتعلن رحيل حقبة الانتقام الفردي، واقتصاص الضحية لنفسها، بل يتعين تقديم الشهود والادلة، لتصدر الاحكام والعقوبات وتفرض على الجاني باسم المجتمع. كانت العدالة على مبدأ كفتي الميزان، مثلاً القاتل يقتل... ولم تجد القاعدة القائلة لاجريمة ولاعقوبة الا بنص القانون من يفكر بها، ولا يعتد بالجهل بالقانون،كانت القوانين عبارة عن مجموعة من الاعراف والتقاليد والنصوص الدينية.

الامر اللافت في هذه الحقبة، تطور العقوبة واتخاذها اشكال متعددة، ومن اشكالها: الحرق، والصلب، وتقطيع الأوصال، وصلم الآذان، وقطع الشفاه واللسان، والوشم، ولبس أطواق من الحديد، والنفي، والجلد، والحبس، وفقأ العين......الخ من عقوبة وحشية تشوه الجسد البشري.&

تطال هذه العقوبات ليس فقط الاحياء من البشر، بل القانون يجيز محاكمة الإنسان حياً ويجيز محاكمته ميتاً، ويجيز محاكمة الحيوان والجماد، أي يمكن ان يكون الجماد والحيوان والميت، أهلا للمسؤولية والعقاب.

مراحل اخرى:

تطورت الحياة اكثر وتصدى الفلاسفة لمهمة تطوير مبادئ العدالة ونظرية العقوبة، فظهرت المدارس والنظريات القانونية في تفسير الجريمة والحكم بما يناسبها من عقوبة. فلاسفةُ مالوا الى اعتبار الانسان، صاحب الارداة الحرة والاختيار بارتكاب الجرم وخرق النظم الاجتماعية مسؤولاً عن افعاله، ودعت هذه المدرسة الى تناسب العقوبة مع الضرر دون النظر لوضع الجاني.&

الا أن الفلاسفة اللاحقون كانت لهم اضافاتهم المميزة من إتيان الاعذار لذوي العاهات العقلية ومراعاة حالة انعدام الارداة في ارتكاب الجرم، وبالتالي ظهرت نطرية التركيز على شخص الجاني وارجاع اسباب الجريمة الى طبيعة الانسان والعوامل الشخصية او العوامل البيئية والاجتماعية لظروف عيش الانسان. فظهرت التدابير الاحترازية كإضافة نوعية اخرى، واعادة تأهيل المجرم لدمجه بالمجتمع مجدداً.

غير أن العقوبات في الغالب بقية غير متناسبة مع أهمية الجرائم المقررة لها، فبالرغم من قسوة وفظاعة الكثيرمن تلك العقوبات، كانت عقوبة الإعدام جزاء لكثيرٍ من الجرائم البسيطة، فالقانون الإنجليزي حتى آخر القرن الثامن عشر كان يعاقب على مائتي جريمة بعقوبة الإعدام، ومن هذه الجرائم، سرقة اموال قليلة، وكان القانون الفرنسي يعاقب بالإعدام على مائتين وخمس عشرة جريمة معظمها جرائم بسيطة.

تطور الأمر أكثر وانتبه الفلاسفة الى قيمّة الإنسان وكرامته وحفاظاً لجسده وان المجرم هو انسان، فأخدت العقوبات منحىً اخر، الا وهي العقوبات المقيدة للحريّة (التركيز على الحبس) مع تطور دور السجون. هناك سبب أخر حقيقة دعا الى اللجوء الى العقوبات المقيدة للحرية، الا وهو ان الانسان في تلك الفترة ومازال، شديد الاعتزاز بحريته الفردية، الحرية لها تأثير كبير على الفرد وقرارته، فوجد فيها المشرّع ضالّته في اجبار الناس على الالتزام بالقوانين والقواعد الناظمة للمجتمع، فكانت مقصد المشرع لتحقيق الردع الخاص والعام باكبر قدر.

ان الهدف الذي يسعى الانسان لتحقيقه من العقوبة هو احقاق الحق وانصاف العدالة وحماية للمصالح وجبراً للضرر واشعار الجاني بالذنب والالم ونزع رغبة الانتقام من جهة المجني عليه، أي منفعة، والمجتمع اذ يقوم بذلك فهو لا يحلّ محلّ الفرد بل يكمّله ويقف مسانداً له. أي ان الجريمة هي اعتداء تقع على النظام القانوني والأخلاقي في المجتمع، فتأتي العقوبة لإبطال هذا الاعتداء وبالتالي وسيلة لارجاع الحق الى نصابه. مع التأكيد على عدم تجاوز العقوبة في كل الاحوال لمقدار الاذى الذي طال الضحية لكي لاتصبح هي الاخرى مظلمةً لاتبرر وبالتالي اعتداء.

&

العقوبة:

العقوبة لغوياً من العقبة وعاقبة الشيء اخره، اما اصطلاحاً فهي الجزاء على الذنب، اما قانونياً فهي الجزاء على مخالفة مجموعة القواعد القانونية، وتقوم السلطة في المجتمع بفرض الجزاء ولو بالقوة. وتترتب على الحق الشخصي والحق العام.

أما العقوبة دينياً: زواجر شرعية ان ترك واجب او فعل محرم، اما اصطلاحاً فهي تنشأ عن مخالفة الاحكام الناهية والآمرة التي لايجوز مخالفتها، وهذه الاحكام هي النظام القانوني الاسلامي وهي عامة مجردة وملزمة، وتقسم الى الحدود والقصاص والتعزيرات، وهي حقوق العباد وحقوق الله.

يقول النبي الكريم: ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة.

عن عمر رضي الله عنه: لأن اخطئ في الحدود بالشبهات، احب الي من ان اقيمها بالشبهات.&

ان التشدّد والغلّو في العقوبات لا يخلق مجتمعاً حضارياً، لان الاسس التي تدفع الناس الى الالتزام بالنص مشوبةٌ بالعيب ولا تنمّي الاخلاق ولا تأّدب الناس، ولا تقضي على الافعال الضارة في المجتمع بل تكبتّها وتؤجّل ظهورها الى أجل، في حين ان النص القانوني يجب ان يهدف الى القيام ببناء سليم للمجتمع والانسان، يدفعه ذلك البناء الى الالتزام الطوعي بالقوانين واحترام روح القانون والاهداف السامية له. وفي ذات المنقلب قد تسنّ قوانين لاتهدف لإقامة العدل و حماية المجتمع وإنمائه، وتفرض صارم العقوبات على من يخترق تلك النصوص، فنجد انفسنا في حالة لا تقود المجتمع نحو المدنيّة بل نحو استبدادٍ وتعسفٍ، ينزع عن النصوص صفتها القانونية، الى مجرد اومر واجبة التقيّد. مما يزرع مشاعر الغبن والمظلومية لدى الناس.

عندما تفقد القوانين روحها، لاتحقق العقوبات اهداف المجتمع، وعندما يفسد القضاء، نكون امام مجتمعٍ منعدم العدالة، تسوده المظالم.&

العقوبة في المسار الخاطئ ووقوعها على الابرياء:

تكاد لا توجد أُمة ولم تنلّ نصيبها من عقاب جماعي طال ابناءها، وثمة من يقونّن تلك العقابات ومن يشرّعنها من رجالات الدين، الامر المناقض لاخلاقيات الامم والقيم والمواثيق الانسانية والشرائع السماويّة، ولا يغدو الامر كونه استبداد سلطوي خارج سياق النص القانوني، وذاتُ الخروج عن نص وروح القانون نجده في حالات العقوبات الاقتصادية من دول كبرى بحق دول اخرى، لانتهاكها اعرافاً او خرقها لقوانين دوليّة، فالضحية تكون في كثير الحالات هي الشعوب، لا انظمتها المنتهكة للقوانين.

من هنا نتجه صوب المبدأ القائل بقانونية الجريمة والعقوبة، ومن هنا أيضاً الفت الانتباه الى مايرتكب من جرائم باسم القانون من عقوبات تفقد صفتها القانونية، وذلك في حالات الحروب وانعدام النظام الملّزم للجماعة، القائمة على تطبيق العقوبات او المُكلفة نفسها مهمة سنّ العقوبات وتنفيذها، التي تحدث في حالات الاستبداد السياسي والتطرف الديني و الانقلاب العسكري وحالة الجريمة خارج النص من قبيل عديمي الاخلاق والأهلية لسنّ وتنفيذ مايرونه جريمة مستحقة للعقاب بحق معارضيهم او من يقف في وجههم او حتى المواطنين العاديين، من سجنٍ او نفيٍ او اعدام.

ان القوانين ومنها العقوبات تسنّ لصون الحقوق ولحماية المجتمع، اما اذا كانت لغير ذلك فهي فارغة من محتواها القانوني والروحي ولاتعدو كونها مجرد اوامر واجب الطاعة ممن يمتلك السلطة والقوة.

ودون الخوض في الاختلاف بين ماهو مجرّم في الشريعة والقانون والاختلاف في نصوص العقوبات بينهما، نجد العقوبة هادفة لتحقيق العدالة ونزع رغبة الانتقام الفردي وعدم الدخول في فوضى التطبيق الفردي، الذي لايخلو من تجازوات قانونية تفقده صفة العقوبة في غير حالة.

لان كانت العقوبة وسيلة لمكافحة الجريمة وحماية المجتمع والحفاظ عليه منظماّ دونما خلل، فان الغرض من العقوبة تأديب المجرم واستصلاحه ومعاونته على استعادة مكانته السابقة في المجتمع، ما خلا عقوبة الاعدام، التي هي أداة استئصال.&

وفق النظريات الحديثة، فان الجرائم لها عقوبات اصلية واخرى فرعية، ولكل عقوبة حدّين، وتتجه السياسات الجنائية الحديثة الى توفير فسحة تقديرية كبيرة للقاضي للأخذ بظروف الجريمة ومراعاة الظروف الشخصية للجاني وفيما يتعلق بتقدير الادلة والاثبات و تحديد العقوبة والتدبير، وتسير اغلب التشريعات نحو طابع العقوبات البديلة من العمل للمنفعة العامة او الالزام بازالة الضرر او وقف التنفيذ او الكفالة او العدول عن الطريق الجنائي او المصادرة او العقوبة المالية وتشدّدها بغرامات كبيرة و مرهقة لمن تسوّل له نفسه ارتكاب جرم، ذلك ان العامل المادي له أثر كبير في ردع الناس والتفكير مليّاً قبل الاقدام على الجرم، ومن يدري في المستقبل ماقد يسنّ من عقوبات جديدة.

في البدء كان رب الاسرة، يتولى تشريع وتنفيذ العقوبة، اصبحت الآن هيئات متعددة تتولى هذه المهمات من سلطة تشريعية الى هيئة قضائية الى مؤسسات تنفيذ العقوبة، تطور هائل طال العقوبة ذاتها ومايحيط بها من ظروف مشددة او اعذار مخففة او محلة، حتى غدت اكثر عدالة ومساواة ورحمة، واكثر من ذلك اضحت العقوبة كجزاء وعلاج، تحقق اهدافاً، بعيدة عن نشأتها كانتقام وتشفّي وردّ الالم. من الردع العام والخاص واصلاح الجاني واعادة تأهيله، اعادة تأهيله هذه ما ان تثبت حتى تمنح الجاني حق المطالبة بتخفيض مقدار العقوبة.

ولدت العقوبة، ككائن متوحش ينال من الجسد البشري، زمناً بعد زمن، تتالت النظريات التي هذّبت العقوبة وجعلتها غاية لتحقيق اهداف المجتمع بالطريقة المثلى، فاصبحت الآن تنشد العدالة والمساواة اكثر وتنشد ايضاً الرحمة الانسانية، فعقوبة الاعدام مثلاً في العديد من الدول ملغيّة ولا يعمل بها مهما كانت الجريمة ومهما بلغت جسارتها.&

ان المجتمع الحسن والطبيعة الجميلة، والانسان الطيب الذي هذّبته القوانين والنظم القوية العادلة، تكوّن اكتمالاً لاركان دولة الانسان.&