"وسكنتها كبيرهم وصغيرهم، لم اترك احدا منهم وملأت بجثثهم شـوارع المدينة "

الملك الآشوري سنحاريب

كان رحمه الله مطرب الملاحم الكردية بسوريا الفنان عبدالرحمن عمر(بافي صلاح) في الكثير من الأوقات خاصةً عندما يكون متوجهاً للقيام بعملٍ معين فيرى نفسه وقد صار في موقعٍ آخر غير الذي كان يستهدفه قبل انطلاقه، إذ أن طارئاً ما كان كفيلاً بتغيير وجهته عن المكان الذي كان سائراً نحوه، فكان بمقدور أشخاصٍ معينين ممن يرتاح إليهم ويلتقيهم في الطريق أن يجعلونه ينسى الغرض الذي كان قد خرج إليه، ثم ينشغل معهم بالذي كان يُشغلهم، ومن ثم يقوم بتغيير مسار دربه ومقصده 180 درجة، منها مثلاً: ففي إحدى المرات كان قاصداً السوق لجلب الحليب لابنه صلاح، إلا أنه صادف في طريقة مجموعة حزبيين ممن كانوا منهمكين بعقد كونفراسهم التنظيمي، ولاهتمامه بالمواقف والمواضيع السياسية ما كان على أبو صلاح إلّا أن يسلك الدرب معهم ناسياً ابنه والحليب والغاية التي خرج لأجلها، حيث بقي معهم أنذاك حتى انتهاء كونفرانسهم الحزبي ذاك.

وبخصوص القلم الذي يغير مساره كما كان يحدث عادةً مع (بافي صلاح) فمنذ يوم أمس وخلال بحثي عن معلوماتٍ تتعلق بمؤلف وواضع موسيقى نينوى، هل كان فعلاً معاصراً لذلك السقوط المريع؟ أم أنه ألّف موسيقاه تالياً بناءً على ما سمعه من الآخرين، أي أؤلئك الذين نجوا من الكارثة التي حلت بالمدينة وأهلها في فترة حكم الامبراطورية الآشورية لتلك المنطقة في ذلك الزمان، وإذ بي كما حال (أبو صلاح) أصادف خبراً مترجماً عن (الوول ستريت جورنال) الاميركية، يتحدث فيه عن سعي الجيش الأميركي لإرسال 500 جندي إضافي للعراق لتعزيز استعداداته لمعركة تحرير مدينة الموصل التي يرجح انطلاقها خلال شهر تشرين الأول المقبل، علماً أن المصدر أشار إلى أن مهمة القوات الأمريكية ستنحصر بتقديم المشورة والمساعدة والإرشادات للقوات العراقية بعيداً عن خطوط المواجهة.

إذ وعقبَ قراءة الخبر المذكور أنفاً بُعيد عملية البحث عن المعلومة المتعلقة بالنوطة الموسيقية، لم أجد نفسي إلّا وقد سلكتُ طريقاً آخر غير الذي كنت قد عزمت المضي فيه، وانحرفت عن المقصد الذي كنت بصدده، وهو ما كان كفيلا بتغيير فكرة المقالة برُمتها كما كان عليه حال (بافي صلاح) وبدلاً من معرفة النوطة الموسيقية وزمانها وواضعها، رحتُ مفكراً بحالة الموصليين وهم على أهبة الهجوم الكاسح للقوات المحلية مع مؤازرة قوات التحالف الدولي ضد تنظيم داعش بهدف تطهير المدينة وتخليصها من طغيانهم.

إذ وبعد القليل من التحري والمقارنة، لاحظتُ التقارب العجيب بين ما يعيشه سكان محافظة نينوى ككل ومدينة موصل على وجه الخصوص حالياً، وضع أهل الموصل الآن، مقارنةً بما عاناه أهل نينوى في فترة ما قبل الميلاد، إذ وحسب الويكيبيديا أنه "بـعد موت الملك الآشوري آشوربانيبال عام ٦٢٧ ق.م بدأت الامبراطورية الآشورية بالتفكك نتيجة للحروب الأهلية، وفي عام ٦١٦ ق.م هوجمت المدينة مِن قِبل حلفٍ ضم البابليون والميديون والكلدانيون والأرمن والكيميريون والفرس، ففي عام ٦١٦ ق.م ووصلت قوات التحالف آنذاك الى نينوى، فحوصرت المدينة من قبلهم، واستبيحت المدينة في عام ٦١٢ ق.م ومن ثم انتقلت الى حرب الشوارع وبعد ذلك دُمرت المدينة، بينما معظم سكانها إما قُتلوا أو فروا منها هرباً من الموت المحتوم، وفيما بعد قُسمت المستعمرات بين البابليين والميديين".

لذا فأخبارسقوط نينوى وتبعاته على المواطنين الأبرياء آنذاك تأخذنا في لقطةٍ فانتازية إلى احتمالية ما قد يحل بسكان محافظة نينوى قريباً، واحتمالية أن يشهد الموصليون في الشهر القادم ما شاهدته نينوى قبل الميلاد، حيث تحالف شعوب المنطقة آنذاك للخلاص من جورالامبراطورية الآشورية، واليوم أيضاً هنالك تحالف داخلي محلي وتحالف دولي ضد الدولة الداعشية التي أرادت إرجاع عجلة الزمن الى الفترة الجاهلية، ولكن يبقى عزاؤنا أن اليوم ثمة قوانين تلتزم بها القوات والجهات العسكرية الحالية التي ستهاجم معاقل داعش، وأملنا بأن تستخدم تلك القوات التي ستساهم في تحرير الموصل، كل الامكانيات التقنية الحديثة لتجنب الدمار الكلي لها ولناسها، وأن يعملوا بصدق وفق المواثيق والشرائع الدولية فيما يتعلق بالحرب وقوانينه، وذلك للتخفيف قدر الإمكان من عدد الضحايا بين المدنيين، وأملنا بألا يُصاب الأهالي بأي مكروه من خلال العملية التي ستعيد الحياة الى المدينة وناسها، بعد الحكم الداعشي الذي لم يكن بأي شيء أفضل من سطوة الامبراطورية الآشورية، وذلك بالرغم من الفارق الزمني الرهيب بينهما، وكلنا أمل بأن يسقط حكم الدواعش بأقل الخسائر البشرية، وبألّا يُنتج عن الهجوم المرتقب مآسي مماثلة للماساة التي عبّرت عنها سيمفونية نينوى التي صارت مع الزمن من التراث الموسيقي العالمي.