سيولي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مساحة أوسع من أولويّاته للسياسة الروسية الخارجية بعدما انتهى من الاستفتاء الذي صوّت عليه الشعب الروسي وكرّسه في منصبه لولايات متتالية. سينشط بوتين في ملفّاته الدولية بعدما تحرّر من القيود المحلية – أو على الأقل من أولويّة الاستفتاء الذي أراده بشدّة– وستكون العلاقة مع الولايات المتحدة في أعلى القائمة تليها العلاقة مع طرفَي عملية "أستانة"، تركيا وإيران، بامتدادها السوري والليبي واللبناني والإسرائيلي وغيره. إنما اليوم، وبسبب قصّة طالبان في أفغانستان، يتربّع التوتر على العلاقات الأميركية – الروسية وسيزداد تفاقماً على نغم العلاقات الروسية – الإيرانية مع الاقتراب نحو الانتخابات الرئاسية الأميركية، بالذات في مسألة تمديد حظر الأسلحة الى إيران في شهر تشرين الأول (أكتوبر) المقبل.

المحطة الآنية التي تشغل صنّاع القرار الروسي – بالرغم من أنها ليست الأولى في سلّم الأولويات – هي الإجراءات الإسرائيلية القاضية بضم أجزاء من الضفة الغربية وغور الأردن والتي باركتها إدارة ترامب بموجب صفقة جيري كوشنر. رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو قرّر عدم تنفيذ إجراءات الضم بتاريخ 1 تموز (يوليو) ليس تجنّباً للتصعيد أو خوفاً من انتقام إيراني أعدّ له كبار العسكريين "في الحرس الثوري"، وإنما لأن الحكومة الإسرائيلية تريد إعادة كتابة الخطّة التي قدّمتها لها الإدارة الأميركية بهدف "تحسينها" لتأمين مساحات أكبر للضم.

بحسب المعلومات، هذا ليس تأجيلاً عشوائياً لموعد التنفيذ وإنما هو قرار إسرائيلي مدروس، أوّلاً، للحصول على أكثر، وذلك اقتناعاً من الإسرائيليين بأن التهديدات الفلسطينية بالتملّص من التزاماتها الأمنية بموجب أوسلو ليست جدّيّة. وثانياً، امتصاصاً لحملات الاحتجاج التي كانت جاهزة في أكثر من عاصمة. وثالثاً، لأن إسرائيل تريد اتخاذ اجراءاتها في موعد أقرب الى الانتخابات الرئاسية الأميركية. وبالتالي، انها تتهيّأ لشهر أيلول (سبتمبر) لتفرض أولويّاتها وقراراتها على المرشّحينِ الجمهوري والديموقراطي على السواء. فلن يكون في قدرة المرشّح الديموقراطي جو بايدن معارضة إسرائيل ومشاريعها في خضمّ الانتخابات. ذلك أن إسرائيل مسألة محلية domestic issue في الولايات المتحدة الأميركية، بالذات في المواسم الانتخابية.

ما شأن روسيا في هذا؟ ليس شأناً مباشراً بقدر ما هو مُحرج لها لأنه يعرّي عدم قُدرتها على التأثير في القرار الإسرائيلي وعجزها عن المعارضة الفعلية الملموسة لإجراءات الضم. ثم ان المعلومات لدى المصادر الروسية تفيد بأن إسرائيل تنوي اتخاذ خطوات اضافية ليس فقط نحو فلسطين وإنما في سوريا تأخذ شكل "هجمات عسكرية إسرائيلية على مواقع عسكرية سورية وعلى مواقع عسكرية إيرانية بقرب دمشق، بنوع من المساعدة الأميركية".

موسكو في موقع حرج لأن علاقاتها مع إسرائيل بالذات في ترتيبات الجولان – تقوم على التفاهمات والصداقة الشخصية بين بوتين ونتانياهو فيما علاقاتها مع بشار الأسد وإيران علاقة تحالف ميدانياً ومشروعها في سوريا بالغ الأهمية لها استراتيجياً.

لذلك، وحالما انتهى الرئيس الروسي من الاستفتاء، عقد قمة افتراضية جمعته بشريكيه في عملية "أستانة"، الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان والإيراني حسن روحاني، عنوانها: سوريا. هدف بوتين كان حصراً للقول ان سوريا ما زالت على الأجندا – والكلام موجّه على جهتين أساسيّتين هما: الولايات المتحدة التي ازدادت نشاطاً في سوريا، والشعب الروسي الذي انخفض اهتمامه بسوريا الى درجة مُقلقة للكرملين.

المصادر المطّلعة على أجواء اللقاء أكّدت أن قمّة عملية أستانة للحل السياسي في سوريا قفزت على القضايا الصعبة واكتفت بأن تكون "شكليّة" Formality. ما حقّقته القمة هو أنها مكّنت فلاديمير بوتين من القول انه ما زال في حوار حول ادلب وفي مفاوضات مقايضة مع نظيره التركي، وأنه بالرغم من استمرار التناقضات والنزاعات "ان روسيا ليست في حال نزاع وتصادم علني مع تركيا"، قال المصدر مضيفاً "فلقد كان مهمّاً إبراز هذه الأجواء".

وبحسب المصدر "لم يتم التطرّق الى موضوع ليبيا على الإطلاق بناء على اتّفاق مسبق بأن تكون القمة الافتراضية حصراً حول أستانة". تمّ الاتفاق أيضاً على أن يتباحث الرئيسان الروسي والتركي في الموضوع الليبي في مخابرة هاتفية، ربما الأسبوع المقبل. فهذا موضوع فائق الأهمية للطرفين وللرئيسين وللمؤسّستين العسكريّتين علماً أن المؤسسة العسكريّة الروسية متحمّسة لتلقين نظيرتها درساً في الساحة الليبية انتقاماً مما فعلته في الساحة السورية.
ما سعت وراءه روسيا، ودعمتها فيه إيران، هو إنشاء موقف مشترك لأطراف "عمليّة أستانة" ضد العقوبات الأميركية نحو سوريا. لكن روسيا وإيران وحدهما وافقا على ذلك، بحسب المصادر المطّلعة.

روسيا قلقة جداً من "قانون قيصر" الأميركي الذي يطوّق نظام بشار الأسد وكل من دعمه ويدعمه بعقوبات قاسية. قلقة أوّلاً لأنها مقتنعة أن الولايات المتحدة دخلت عملية تطبيق العزل الاقتصادي لسوريا – الأمر الذي يُعقّد ويهدّد الاستراتيجيّة الروسية نحو سوريا التي لا تريد أن ترثها مفلسة وفي بؤرة اضطرابات تهدّد انجازاتها وتحوّل سوريا الى مستنقع لروسيا.
ثانياً، ما تخشاه موسكو هو الوطأة الثقيلة للعقوبات الأميركية المرتقبة قريباً على الشركات الروسية التي تعمل في سوريا – العسكرية منها والمدنية. فهي ترى أن العقوبات الآتية قادرة على تدمير بعض أكبر الشركات الروسية، النفطية منها وتلك المعنيّة بالمواصلات، وغيرها. وهي تخشى أن تنجح العقوبات الأميركية في تكبيل أيادي الديبلوماسية الروسية في سوريا، وأن تدفع بالرأي العام الروسي الى المطالبة بالكف عن الاستنزاف في سوريا.
إيران أيضاً قلقة جداً وخائفة بالرغم من تظاهرها وتظاهر حلفائها بالعكس. فهي تدرك أن قانون قيصر سيطالها ويطال حليفها "حزب الله" ولبنان الواقع تحت سيطرته. ثم الى جانب الذعر من العقوبات الآتية، لدى طهران مصدر هلع آخر هو أن تنجح الجهود الأميركية في تكبيل قدرة إيران على استيراد الأسلحة، بالذات من روسيا.

وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو طالَب أعضاء مجلس الأمن هذا الأسبوع بتمديد حظر الأسلحة المفروض دوليّاً على إيران، والذي تنتهي مدّته في 18 أكتوبر، وقال في جلسة عبر دائرة تلفزيونية ان إيران ستكون "حرّة لشراء طائرات مقاتلة روسية الصنع يمكن أن يصل مداها الى 3000 كيلومتر لتهدّد مُدناً مثل الرياض ونيودلهي وروما ووارسو". كما حذّر بومبيو من تهديدات إيران للملاحة الدولية في مضيق هرمز وبحر العرب وقال انها ستكون "حرّة بشراء تكنولوجيات جديدة ومتقدّمة لوكلائها في جميع أنحاء الشرق الأوسط، بما في ذلك حماس وحزب الله والحوثيّين". وزاد ان إيران ستهدّد الاقتصاد العالمي "وتُعرّض دولاً تعتمد على استقرار أسعار الطاقة مثل روسيا والصين للخطر". وتحدّى بومبيو نظيره الإيراني المشارك في الجلسة، محمد جواد ظريف قائلاً "ان الرئيس روحاني هدّد برد ساحق في حال تم تمديد فرض حظر الأسلحة. أتمنّى أن يقول لنا وزير الخارجية الإيراني، من سيسحقون، وكيف سيتم سحقهم؟!".

ظريف شدّد على أن انهاء حظر الأسلحة في 18 أكتوبر هو شرط أساسي للحفاظ على الاتّفاق النووي JCPOA الذي تم توقيعه في 2015 معتبراً أن رفع حظر الأسلحة "لا ينفصل" عن الحفاظ على الاتّفاق النووي. وحذّر ظريف الترويكا الأوروبيّة - بريطانيا، المانيا، وفرنسا – من انضمامها الى العقوبات الاقتصادية على إيران وقال "ان من يشارك الولايات المتحدة في إجراءاتها يتحمل المسؤولية معها".

وكانت وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية وبناء السلام روز ماري ديكارلو قدّمت إحاطة الى مجلس الأمن ذكرت فيها ان الصواريخ المُستخدمة في هجمات 2019 على أرامكو في السعودية ووحدات الإطلاق الخاصة بها هي "من أصل إيراني ولديها تواريخ انتاج بعد عام 2016" – أي بعد الاتفاق النووي.

روسيا والصين اللتان لهما حق النقض في مجلس الأمن متمسّكتان بمعارضة الجهود الأميركية المنصبّة على منع رفع حظر الأسلحة لإيران. كلاهما في علاقات متوتّرة مع واشنطن عبر ملفّات خلافات متعدّدة. وليس واضحاً بعد ان كانت الفيتو الثنائية الصينية – الروسية ستعود الى المعركة مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية في مجلس الأمن، أو ان كانت المقايضات على الملفّات الأخرى ستأتي بمفاجآت.

بين الملفّات التي تشغل موسكو هذه الفترة تَوجّه عدد جديد من القوات الأميركية من المانيا الى بولندا، على قرب من الحدود مع روسيا. ومن أبرز ما يسبب التوتر في العلاقات بين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب هو مسألة طالبان حيث الاتّهامات ضد روسيا - التي تنفيها موسكو - تصب في خانة تمويل عناصر من طالبان لاستهداف الجنود الأميركيين في أفغانستان، وضد ترامب اتّهامات بأنه غض النظر.
المسألة برمّتها فائقة التعقيد خلاصتها ان روسيا مُتّهمة بأنها قامت بتقديم الدعم المالي الى طالبان بصيغة "مكافآت" من أجل استهداف القوات الأميركية وقتلهم. هذه التهمة المزعومة قنبلة مدمِّرة لأنها تصب في خانة قتل الجنود الأميركيين على أيادي روسيا – الأمر الذي تنفيه موسكو قطعاً – ولأنها تأتي في إطار الانتخابات الرئاسية. فإذا كان دونالد ترامب على علم بالموضوع وغض النظر، شيء، وإذا كانت المكافآت الروسية بدأت منذ عهد الرئيس السابق باراك أوباما عام 2014، كما قال المتحدّث السابق بإسم طالبان، شيء آخر.

هذا الموضوع استخباراتي بامتياز ولذلك ان طيّاته عديدة وعناصره متعدّدة الجنسيات. وبحسب المعلومات، هناك شركة مقاولات لبنانية متورّطة قامت أكثر من مرة بتقديم لبنان كنقطة انتقالية في إطار المكافآت الروسية المزعومة الى طالبان. ولأن المسألة فائقة التعقيد، بحسب قول أحدهم، "هناك هياكل عظميّة كثيرة في الخزانة" قد تؤثّر في الانتخابات الرئاسية الأميركية، وفي العلاقات الأميركية – الروسية، لأن الأمر يتعلّق بمسألة أساسية لدى الأميركيين وهي، أرواح الجنود الأميركيين. ولذلك فلاديمير بوتين قلق، ودونالد ترامب قلق، وكلاهما يريد التهدئة.