باتت "الأستنة" تعبيراً لعيناً بعدما وُجِدَت في الأساس تحت شعار خلاص سوريا من لَعنتِها بفعلٍ وطني ودولي. أطراف عملية "أستانا" لسوريا هي روسيا وتركيا وإيران، وهذه الدول كانت بالأمس القريب في تحالفٍ وتفاهمٍ ميداني ما لبث أن انهار لعدّة أسباب، أبرزها تطوّر المقايضة الروسية – التركية حول معركة حلب قبل بضعة سنوات الى مبارزة روسية – تركية حول معركة ادلب انتقلت مؤخّراً الى مواجهة روسية – تركية في ليبيا. عناوين هذه المواجهة عديدة لكن العنوان الأبرز في المعركة على ليبيا هو مشروع "الإخوان المسلمين" الذي يرعاه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ويُصر على إقحامه في الدول العربية. الجمهورية الإسلامية الإيرانية ليست طرفاً في "الأستنة" الليبية وهي مُنشغلة حالياً بمشروعها الذي التهت بعيداً عنه في السنوات الأخيرة وتعود اليه الآن من بوّابة السياسة الإسرائيلية القائمة على ضم الضفة الغربية بمباركة أميركية – انه مشروع استخدام طهران المسألة الفلسطينية لحساباتها الانتقامية من العقوبات الأميركية التي تخنقها. وهكذا تتصدّر الجغرافيا العربية واجهة المعارك والحروب بالنيابة. والأمور الى أسوأ.
البداية مع إيران. فقد نقلت المصادر المقرّبة من "الحرس الثوري" الإيراني ان اجتماعاً عُقد الثلثاء الماضي لكبار المسؤولين العسكريين الإيرانيين خرج بقرار رئيسي هو: التأهّب العسكري الكامل للقوات المُوالية لِطهران، بالذات "حزب الله" و"حماس" مع نهاية حزيران (يونيو) بداية تموز (يوليو)، وذلك تزامناً مع التوقعات ببدء إسرائيل عملية ضم الضفة الغربية من الأراضي الفلسطينية.
تقول هذه المصادر ان "نسبة التأهّب العسكري ستكون مئة في المئة، وهذه الاستعدادات العسكرية ليست لمجرد عرض التمارين العسكرية". تضيف، ان امكانية وقوع اشتباكات عسكرية بين قوات "حماس" و"حزب الله" وبين إسرائيل واردة في الخُطط الإيرانية التي تمّ اعتمادها في الاجتماع. والسبب وراء هذا القرار الذي تمّ اتخاذه على أعلى مستويات القيادات العسكرية في طهران هو أن التعبئة الشعبية والعسكرية ضد سياسة الضم الإسرائيلية مفيدة من أجل تحويل الأنظار عن الانفجار الداخلي الإيراني الناتج عن العقوبات الأميركية المدمِّرة للاقتصاد، ومفيدة من أجل إبراز الغضب الإيراني من العقوبات الجديدة التي فرضتها واشنطن على مختلف القطاعات النفطية والذريّة، وإنهاء الاستثناءات من العقوبات، والإجراءات التي تنوي اتخاذها ضد إيران وفنزويلا بسبب صفقات النفط مقابل الذهب بينهما.
ليبيّاً – رهيبٌ كيف أصبحت ليبيا مُسلسلاً واقعيّاً مُرعِباً مستحيلٌ على مؤلّفي المسلسلات اختراعه. مرتزقة وعملاء من مختلف القارات، وإرهابيون غرباء قادمون الى ليبيا أو عائدون اليها كمواطنين، وصراعات دولية بين أصدقاء تحوّلوا الى أعداء وجدوا الساحة الليبية خصبة للانتقام. كل ما يمكن تصوّره لتحويل قصة ليبيا الى فيلم شيّق متوافر – من النفط، الى الإتجار بالمقاتلين، الى خوف الأوروبيين من الهجرة اليهم، الى إحياء مشروع الإخوان المسلمين المدمِّر لمستقبل المنطقة العربية بفضل تركيا وحلفائها. ليبيا مأساة وطنية بفعلٍ ليبي وهي كارثة إنسانية بتواطئ عالمي.
مصادر مطّلِعة عن كثب على السياسة الروسية نحو تركيا أكّدت أن سيّد الكرملين فلاديمير بوتين قرّر تلقين أردوغان درساً في ليبيا بسبب ما يفعله في سوريا، "الفكرة هي انه إذا حقّقنا ما نريده ضد تركيا في ليبيا، ان ذلك سيُعطينا القدرة على التصرّف بحزم وقساوة ضد ليبيا في سوريا».
العلاقة الروسية – التركيّة تأزّمت كثيراً بسبب معركة ادلب حيث انزلقت العلاقة الى الحضيض وسقطت معها تفاهمات "استانة" التي كانت روسيا تعتبرها الطريق الى إنهاء الصراع في سوريا عبر العمليّة السياسية. وزير الخارجية الفرنسي جان-ايف لودريان استخدم تعبير "سورنة" النزاع في ليبيا وحذّر من دعم أطراف خارجية لأطراف داخلية في النزاع الليبي وقال ان "حكومة الوفاق مدعومة من تركيا التي تجلب الى الأراضي الليبية مقاتلين سوريين بأعداد كبيرة، بآلاف عدة».
فدخول تركيا على الخط في ليبيا الذي أتى بموجب اتفاقيات مع حكومة الوفاق غير المتوافَق عليها ليبيّاً ويرأسها فايز السرّاج إنما أتى على ليبيا بلعنة "السورنة" عبر تنظيم تدفّق السلاح والمرتزقة اليها. تركيا تتوعّد علناً اللواء المتقاعد خليفة حفتر قائد "الجيش الوطني الليبي" المُعارض للسرّاج الذي يسعى وراء السيطرة على طرابلس عسكرياً ويتّهم تركيا بدعم الإرهاب ونقله من سوريا الى ليبيا. روسيا تدعم حفتر منذ فترة، إنما الجديد هو النقلة النوعية في هذا الدعم، عسكرياً ولوجستيّاً، لأسبابٍ ليبية وتركية.
المصادر الروسية قالت ان موسكو عقدت العزم على أن حفتر يجب أن يفوز بطرابلس "ويجب أن يسيطر على البلاد بحلول 30 أيلول (سبتمبر). هذا يتطلّب أن تقدّم موسكو الى حفتر كل ما يتطلّبه الأمر. فمُهمّتنا هي أن نساعد حفتر على تحقيق الانتصار، وهذا ممكن فقط من خلال تمكين قوات حفتر على إلحاق الأذى والضرر الى أقصى حد ممكن بالمؤسسة العسكرية التركية في ليبيا". بكلام آخر، عبر طائرات مقاتِلة روسية وعبر مرتزقة يعملون لحساب روسيا. فالهدف الروسي الآتي واضح وهو: عزل تركيا عن ليبيا وإسقاط مشاريعها هناك، وتحويل القدرة القتالية لقوات حفتر الى أكثر مهَنيّة وفعاليّة. أما الهدف البعيد المدى، فقد لا يكون تتويج خليفة حفتر قائداً لليبيا وإنما إيصال سيف الإسلام القذافي الى الرئاسة.
كل هذا يثير حفيظة الولايات المتحدة التي دخلت هذا الأسبوع على الخط لمعارضة روسيا وانتقادها علناً وبعثت رسائل مبطّنة تشير الى شبه تعايش واشنطن مع مغامرات تركيا في ليبيا بسبب خشيتها من مشاريع روسيا الاستراتيجية والنفطيّة عبر عودة شركة نفط لوك Luke oil الى ليبيا.
الجيش الأميركي اتهم روسيا بإرسال طائرات مقاتلة لدعم مرتزقة روس من مجموعة "فاغنر" يعملون في ليبيا. مساعد وزير الخارجية للشرق الأدنى، ديفيد شنكر، أخذ المسألة الى أبعد عندما احتجّ على وصف دور تركيا في ليبيا بأنه يُلحق الخراب والدمار havoc وقال "ولماذا تظنَّن أن تركيا تلحق الخراب والدمار بدعمها الحكومة المعترف بها دوليّاً فيما روسيا ترسل المرتزقة والطائرات المقاتلة المتفوّقة؟" ولدى الإشارة الى مرتزقة تركيا في ليبيا، قال شنكر، "كل طرف له مرتزقته" في ليبيا، وأضاف ان مرتزقة "فاغنر" الروس "هم الذين أتوا أولاً" الى ليبيا "وهم الذين دفعوا بحفتر الى الهجوم على طرابلس إبريل الماضي للسيطرة على العاصمة. وعندئذ فقط تدخّلت تركيا لمنع ما كان سيحصل لربّما من كارثة انسانية رهيبة».
شنكر كان يتحدّث في الحلقة المستديرة الرابعة لقمة بيروت انستيتوت في أبو ظبي بمشاركة الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية، حسام زكي، الذي ردّ قائلاً "انّنا ندين كل التدخّلات الأجنبية في الشؤون الليبية"، معتبراً هذه "حرباً بالوكالة" بين روسيا وتركيا وهي "امتداد" للحرب السورية. شنكر عاد ودافع عن تركيا بصفتها "طرف في النزاع" interested party وقال في إشارة الى الأتراك "لقد وضعوا قوّاتهم في سوريا أيضاً ولربّما بعض العرب لم يعجبهم ذلك – ذهاب الأتراك الى سوريا. من جهتي ليس لي مشكلة مع ذلك لأنهم يحمون مصالحهم. وأنا اعتقد أنهم حالوا دون مذبحة للسوريين على أيادي نظام الأسد وروسيا. فأعتقد أن تدخّلهم كان جيّداً، من وجهة نظري».
فيليب اكرمان، المدير العام للشرق الأدنى والمغرب في وزارة الخارجية الألمانية – صاحبة مبادرة برلين للمصالحة الليبية – قال في الحلقة ذاتها ان ما يحدث في ليبيا يجعل المسألة أقل اهتماماً بليبيا نفسها "فهذه أصبحت حرباً بالوكالة لأهداف وأطراف مختلفة". طرح اكرمان سؤالاً حول ما العمل بمجموعة الإخوان المسلمين "هل هم جزء من الطيف الليبي Spectrum أم انهم منظمة إرهابية؟" أشار الى الصراع الروسي– التركي في ليبيا وقال ان أوروبا هي القلقة لأنها الجار المباشر لليبيا، ولذلك، الأمل في رأيه، هو في إعادة إحياء "عملية برلين" للمصالحة الليبية.
الواقع على الأرض لا يبشّر بالمصالحة الوطنية، ولا بالمهادنة الروسية – التركية، ولا بانقراض المرتزقة، ولا بزوال مشروع الإخوان المسلمين المدمِّر لليبيا. فالحسم العسكري هو معيار وعنوان الفصل المقبل في ليبيا. هذا إذا لم تؤدِّ "السورنة" الى اطالة المعاناة الليبية على الطريقة السورية.
التعليقات