تتموضع الحكومات والحكّام قبيل الانتخابات الرئاسية الأميركية كل أربع سنوات امّا للتأثير مباشرة في العملية الانتخابية – كما تُتَّهم روسيا – أو لحفظ "خط الرجعة" مع الجمهوريّين والديموقراطيّين عبر الاستثمار الإيجابي أو السلبي مع الحزبين والمرشّحين للرئاسة. المساهمون الأساسيون الثلاثة في تراجع افتراض دونالد ترامب الأكثر حظّاً بالرئاسة هم: أوّلاً، كوفيد-19 وما عرّاه هذا الوباء من تقصير الولايات المتحدة في اتّخاذ الاستعدادات لمثل هذا الحدث سيما وأنها الدولة العظمى الوحيدة في العالم. ثانياً، التداعيات الاقتصادية المؤذية لهذا الوباء سيما على صعيد ارتفاع نسبة البطالة الى درجة خطيرة. وثالثاً، مقتل جورج فلويد على أيادي رجال الشرطة – الفاعل منهم وهو يكبس بركبته على عنق الضحية، المراقبون الثلاثة الذين شهدوا على جريمة شنعاء وسط النهار دون أن يتحرّكوا لإنقاذ روح رجل لفظ نفَسه الأخير متوسِّلاً السماح له أن يتنفّس. الرئيس دونالد ترامب افتقد الحكمة في تناوله الجريمة. فبدلاً من أن يؤاسي عائلة الضحيّة ويستوعب كيف عليه ضمان عدم تحوّل المأساة الى تعميق الانقسام العرقي بين البيض والسود في أميركا، تصرّف دونالد ترامب بالعنجهيّة ذاتها التي لربّما تكون موقع قدم انزلاقه الى خارج البيت الأبيض. النزعة التلقائية لدى دونالد ترامب بأن يلبّي قاعدته الانتخابية القومية قبل المصلحة الوطنية الأميركية قضمت لدى البعض ذلك الافتراض بأن طريق ترامب الى البيت الأبيض سالكة. لذلك ازدادت حركة التموضع الدولية أخذاً في الاعتبار امكانية وصول المرشح الديموقراطي المفترض جو بايدن الى الرئاسة. وبدأت معها عملية "التصويت الأجنبي" في الانتخابات الرئاسية الأميركية، كما بدأت أُسرة السياسة الخارجية الأميركية بالدفع بالأجندا والمنطقة التي تهمّها على سلّم الأولويّات.
العنوان الأوّل في نقاشات السياسة الخارجية الأميركية هو الصين وضرورة تعزيز الانخراط الأميركي في منطقة جنوب شرق آسيا. ما لا يريده الجمهوريّون والديموقراطيّون، حزباً وشعباً، هو المواجهة العسكرية بين الولايات المتحدة والصين لأي سببٍ كان. تايوان هي البؤرة التي قد تشتعل منها المواجهة العسكرية المُستبعدة جداً. كل ذلك الكلام الذي تتبادله وسائل التواصل الاجتماعي حول حرب حتميّة بين الولايات المتحدة والصين ليس سوى نتيجة الاجتهاد الشخصي الخارج عن سرب المخضرمين في ملف العلاقات الأميركية – الصينية مثل نائب مستشار الأمن القومي الأسبق في عهد جورج دبليو بوش والزميل البارز في مجلس العلاقات الخارجية في نيويوك السفير روبرت بلاكويل، ومؤلّف كتاب "هل فازت الصين" سفير سنغافورة الأسبق لدى الأمم المتحدة كيشور محبوباني.
كلاهما استبعد قطعاً وقوع حرب بين الولايات المتحدة والصين ووافقهما على ذلك رئيس "فالداي كلوب" الخبير الروسي المُقرّب من الكرملين أندريه بيسترسكي، وذلك أثناء الحلقة المستديرة الافتراضيّة الخامسة لقمّة بيروت انستيتيوت في أبو ظبي شارك فيها أيضاً جهاد ازعور، رئيس دائرة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي.


روبرت بلاكويل كتب في تقرير حمل عنوان "نهاية النظام العالمي والسياسة الأميركية الخارجية" أصدره مجلس العلاقات الخارجية، كتب يقول: "ان أزمة فيروس كوفيد-19 يجب أن تشكّل النهاية لحقبة ما بعد اعتداءات 11 أيلول. فلقد غالت الولايات المتحدة في الاستثمار في مشروع الشرق الأوسط الأكبر، وواشنطن لا بد لها وأن تتوقف عن محاولة اصلاح هذه المنطقة الأكثر اعتلالاً بالشوائب Dysfunctional والأكثر تدميراً لذاتها على سطح الأرض". قال: هناك وصفتان أساسيتان لمساعدة هذه المنطقة هما انه "لا بد للولايات المتحدة الأميركية أن تتوقف عن افتعال الحروب في الشرق الأوسط، أقلّه في المستقبل المنظور. والوصفة الثانية هي: يجدر بالولايات المتحدة الأميركية أن لا تكرّس الرأسمال الديبلوماسي في سياق النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني. فحلّ الدولتين انتهى. لعل اسرائيل هي السبب الأساس بالطبع، وان لم يكن بمفردها، وهي ستتحمّل عواقب هذا. إنما ان تقوم الولايات المتحدة الآن بجهود استخدام الديبلوماسية لحل هذه المشكلة فإن هذا جهد عقيم Hopeless". أشار بلاكويل الى ان إدارة ترامب وبالذات صهر الرئيس جاريد كوشنر هو وراء مشروع ضم إسرائيل للضفّة الغربية وغور الأردن قائلاً "أية حكومة اقترحت على إسرائيل ضم 30 في المئة من الضفة الغربية؟ والجواب هو: انها حكومة الولايات المتحدة عبر خطة كوشنر". وزاد ان "لا مجال لقيام الولايات المتحدة بفرض عقوبات على إسرائيل عقاباً لها على سياسة الضم".
النقطة الأساسية وراء طرح بلاكويل- والتي يوافقه عليها كيشور محبوباني – هي ان آسيا تستحق استثمار صنّاع القرار الأميركيين أكثر مما تستحقّه منطقة الشرق الأوسط. كلاهما يدعو الى تخفيض الاهتمام الديبلوماسي والموارد الأميركية في الشرق الأوسط والخليج لتتّجه الولايات المتحدة شرقاً نحو آسيا. ورأي محبوباني هو "ان مستوى الجهل في العالم العربي نحو بقيّة آسيا مذهل حقاً" كما كتب عقب الحلقة الافتراضية قائلاً "آمل أن تساعد برامج كهذه على تهيئة العرب لقرن آسيا".
النقطة الأساسية وراء طروحات الديبلوماسي المخضرم هي أن جنوب شرق آسيا هي المنطقة التي كانت مؤهّلة للحروب والصراعات كونها تضم 615 مليون نسمة و250 مليون مسلم و150 مليون بوذي و150 مليون مسيحي وحيث تواجدت الكونفوشية والشيوعية والى ما هنالك. "فجنوب شرق آسيا هي المنطقة التي كان يُفترض أن تكون البؤرة الزلزالية epicenter للنزاعات" إنما ما حصل، يضيف محبوباني، ان تلك المنطقة تمكّنت من التطوّر، وتفادي الحروب، وتبنّي ثقافة البراغماتية والتعايش فيما منطقة الشرق الأوسط وقعت في بؤرة الحروب المستدامة. رأيه ان خروج الولايات المتحدة من المنطقة يساعد المنطقة على التعمّق والتقاط أنفاسها بوعي وبمسؤولية.


الجمهورية الإسلامية الإيرانية تريد اخراج القوات الأميركية من الخليج والشرق الأوسط لأهداف مختلفة. قادة طهران عادوا الى طاولة رسم الاستراتيجيات على ضوء التحوّل في بوصلة قراءة نتيجة الاستراتيجيات الرئاسية الأميركية. فهم يريدون إسقاط دونالد ترامب لأنه صاحب سياسة العقوبات المُوجِعة للنظام ولأنه الرئيس الذي انقلب على احتضان سلفه الرئيس باراك أوباما ونائبه جو بايدن لبرنامج طهران في الشرق الأوسط تحت عنوان أولوية الاتفاقية النووية JCPOA. لكن الواقع البراغماتي يفرض عليهم رسم سياستين متوازيتين إحداهما تقوم على افتراض ولاية ثانية لترامب، وبالتالي، استمرار سياسة الضغوط القصوى وما يترتّب عليها من تداعيات قاسية. أو وصول بايدن الى البيت الأبيض وما يرافق ذلك من فُرصٍ جديدة من خلال عودة الولايات المتحدة الى الاتفاقية النووية والطلاق مع سياسات ترامب القائمة على العقوبات.
بايدن كرئيس سيكون الهدية من السماء لحكّام إيران أجمع وليس للاعتداليين، كما يتهيّأ للبعض، إذ ان "الحرس الثوري" سيكون أكثر المتحرّرين من العقوبات وسيمكنه ذلك من الاستطراد في المشروع التوسّعي في الجغرافيا العربية بلا هوادة.
حكّام أنقرة، أو حاكمها، الرئيس رجب طيّب أردوغان سيرتاح جداً لرئاسة بايدن بالرغم من علاقاته الشخصية الغريبة مع دونالد ترامب. فهو صاحب مشروع صعود "الإخوان المسلمين" الى السلطة في الدول العربية. وهذا المشروع سبق ولاقى تشجيعاً ودعماً ملموساً من إدارة أوباما بدءاً من تونس ووصولاً الى مصر وذلك بإسم ديموقراطية العملية الانتخابية التي انقلب "الإخوان المسلمون" تحت مظلّتها على مفصليّة التفريق بين السلطات Separation of Powers في الحكم الديموقراطي الفعلي، فالتهموا السلطات وانقلبوا على الديموقراطية وظلّوا يتمتّعون بالغطاء الأميركي في زمن أوباما – بايدن بمباركة هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية آنذاك.
الخاسرون في حال أتى بايدن رئيساً كما عهدناه نائباً للرئيس هم الذين لا يريدون الوقود للفتنة السنّية- الشيعية عن طريق الدعم الأميركي للأصولية السنّية عبر الإخوان والأصولية الشيعية عبر نظام طهران. الخاسرون سيكونون نساء تونس اللواتي يصرخن في وجه زعيم "الإخوان المسلمين" كصرخة عبير موسى، رئيسة كتلة الحزب الدستوري الحر، في وجه رئيس البرلمان راشد الغنوشي قائلة "قياداتكم اخوانية ومصنّفة إرهابية عالمية"، و"الاغتيالات السياسية رجعت مع رجوعكم البلاد". الخاسرون سيشملون الجيل الشاب داخل إيران والعراق ولبنان وسوريا وليبيا واليمن – فهو جيل ضحية الإرضاء والتستّر ودفن الرؤوس في الرمال كما فعل العالم في صفقته مع نظام طهران.
كيف يجب أن تصوّت الدول الخليجية في الانتخابات الأميركية؟ أولى المحطّات يجب أن تكون في بذل كل وأي جهد ممكن وبأية كلفة لتحقيق إنهاء حرب اليمن عبر نقلة نوعية في التعاطي مع المأساة الإنسانية بالتوازي مع جرأة استثنائية على اتخاذ قرار كفى. عدا ذلك ستكون الدول الخليجية موقع تجاذبات مخجلة في مشهد الانتخابات الرئاسية الأميركية.