افتقاد الولايات المتحدة الجهوزية المُتوقّعة منها أمام وباء كورونا- الذي ترك وراءه مليونيّ إصابة أميركية – أدهش العالم وأضعف وهج أميركا في مخيّلة الكثيرين. ثم أتى الانقسام الأميركي المَرير عقب عملية قتل جورج فلويد الشنيعة ليُطلق شماتة البعض فيما البعض الآخر تمعّن في إفرازات هذا الانقسام على الساحة العالمية. أولى التداعيات سيتمثّل في قبوع العالم في اضطرابات متتالية حتى موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر المقبل، كما في تأجيل البت في الخلافات والصراعات الدولية. حال اللااستقرار الجغرافي-السياسي منه، والاقتصادي، والشخصي، والنفسي سيطول إذن لستة أشهر تقريباً بسبب التقلّب الخطير في الساحة الأميركية اضافة الى عدم اليقين من مسيرة كوفيد-19 وآثارها على الدول والأفراد. وكوسيلة من وسائل إنقاذ الصحة العقلية يلجأ الناس في كافة أنحاء العالم الى الثقافة والفنون والمتاحف والى الإبداع في التعليم لاستقامة بعض التوازن النفسي والفعلي. هذا التداخل بين السياسي والثقافي والاقتصادي، بين مساحة القلق ومساحة الطمأنينة، بين طبيعة الفرد والإنسانية، بين سوق العمل والبطالة، بين الديموقراطية والنزعة الاستبدادية، بات فعلاً عالمياً. فكيف نتفاعل؟
وزيرة الثقافة وتنمية المعرفة في دولة الإمارات العربية ورئيسة جامعة زايد، نورة الكعبي، طرحت سؤالاً عميقاً عندما ميّزت بين التأقلم والمرونة. سألت "كيف يمكن لنا أن نكون أكثر مرونة فيما نقوم بعمليّة التأقلم" في زمن صعب يتحدّى القدرة على التحمّل والمثابرة. وزيرة التعليم السابقة في فرنسا وكذلك وزيرة حقوق المرأة، نجاة بلقاسم قالت "استعادة القيمة الأساسية لحياة الإنسان هي إحدى القيم الأساسية التي علينا اعادة التفكير فيها عند وضع عدد كبير من سياساتنا". المخرجة اللبنانية العالمية نادين لبكي قالت ان الأزمة المترتّبة على وباء كورونا "كشفت انحلالات كثيرة وفشل ذريع في نظامنا" الاجتماعي والسياسي والإنساني والثوري وفي نظام الحكم نفسه. المستشرق الروسي ومدير متحف ارميتاج في سان بطرسبورغ، ميخائيل بيوتروفسكي قال ان العالم أجمع في حال انقسام، والنزعة هي أن يبقى منقسماً– سيما بعد كورونا- حيث الدول تريد أن تنأى بنفسها لتداوي جروحها وحيث الناس يبتعدون عن بعضهم برسالة "لا تلمسني". وقال "ان جزءاً كبيراً من حال اللااستقرار يقبع داخل عقولنا". ولذلك، تلعب الثقافة دور "العلاج" الذي "يشفي من آثار كل هذه العزلة والانعزال الداخلي".
هذه الشخصيات الرائدة كانت تتحدّث في الحلقة المستديرة الافتراضية السادسة لقمّة بيروت انستيتوت في أبو ظبي تحت عنوان "الاستقرار بمفهومه الجديد: من يؤلّف المستقبل؟".
متحف ارميتاج كان يستقبل 5 مليون زائراً سنوياً قبل كوفيد-19. منذ الأزمة، وفي غضون شهرين، استقبل 34 مليون زائراً افتراضياً عبر الأنترنت. جامعة زايد تدرّس حاليّاً 7 آلاف تلميذ عن بعد remotely والتفكير جارٍ في كيفية تطوير التعليم في زمن ما بعد كورونا. كل هذا مشجّع لأن العالم فكّر بإبداع وتقنيّة وبصورة خلّاقة وبإعادة اختراع النفس ولم يرضخ أو يستسلم أمام هذا الوباء. ولكن. لكن هناك الشوق. هناك الاشتياق بإيجابياته وبسلبياته.
رأي نورة الكعبي هو "في نهاية المطاف، اننا في حاجة لأن نرى بعضنا البعض، واننا نحتاج الى الإحساس بالفن لنشمّه ولنتنشّقه ولنلمسه. في رأيي عندما يتعلّق الأمر بمثل هذه الأمور، ان حواسنا محرومة". خوف نادين لبكي هو أن يقتادنا الاشتياق الى العودة لأنماط السابق بكل خروقاتها وأن تَفوت فرصة الإصلاح أو "استطلاع أنظمة بديلة" عن تلك التي قامت على وأدّت الى "الفساد والطمع والجشع، والاستهلاكية المفرطة، وأزمة المناخ، ولا عدالة توزيع الثروة، والتمييز والعنصرية، والإتجار بالناس، والتشريد، والحروب، وعمالة الأطفال، والفقر". أمل نجاة بلقاسم هو أن يؤدّي "إدراكنا لهشاشة نظامنا الذي لا يعترف بالقيم الأساسية لنا" حيث فشل في توفير الكمامات وإجراء الفحوص واحترام كرامة المسنّين، الى الاستفادة من "التعاضد" الذي شهدناه أثناء الفترة العصيبة "وهناك وسائل لتحويل هذه التجربة الى شيء إيجابي للعمل معاً لمحاربة اللامساواة".
ميخائيل بيوتروفسكي يصرّ على ضرورة أن "نكون مرنين في مسألة الهويّة" ويشجّع على التخلّص من عقدة أن يكون لنا هوية واحدة قومية أو دينية أو شخصية لأن "من الجميل أن تكون لنا عدّة هويّات"، وهناك "بهجة وفرح في أن نكون مختلفين" عن بعضنا البعض. فـ"الاختلاف عن الآخر جميل" Different is beautiful. رأيه أن ما "نشهده الآن في الولايات المتحدة هو حرب الذاكرة War of memory... اذ انهم تذكروا الآن الحرب الأهلية... وما يجري الآن هو حرب أهلية". ينادي بيوتروفسكي الى التغلّب على حروب الذاكرة أينما كان والى بناء "الجسور" المتوافرة بين الحضارات والثقافات المختلفة.
المعروفون بأنهم من طبقة "السياسيين الواقعيين" ينظرون الى العالم من منظور الدهاء السياسي والاستراتيجيات والتنافس الجغرافي– السياسي وهُم ينطلقون من براغماتية معادلة من يملك السلطة ومن هي الطبقة الحاكمة فعلياً في أي من البلاد. ما يجول في بال هؤلاء شديد البُعد عمّا تحدّثت عنه مجموعة الثقافة والمعرفة والتعليم والقيم والتي هي أساسية جدّاً في صنع التغيير الحقيقي الدائم، لكن الترابط بين الاثنين بديهي لأنّهما في خندق الحدث الواحد.
أنظار الجميع تتوجّه اليوم الى ماذا يحدث في الولايات المتحدة ومَن له فرص الفوز بالانتخابات الرئاسية. جزء كبير من المراقبين الأميركيين والدوليين ما زال يعتقد أن الرئيس دونالد ترامب سيعود الى ولاية ثانية بالرغم من انحسار الثقة الكاملة بفوزه. المصادر المطّلعة على بعضٍ من استراتيجية ترامب تقول انه سيقفز في سبتمبر/أكتوبر الى ثلاثة مسائل أساسية هي: أولاً، التعافي الاقتصادي السريع في الولايات المتحدة الذي ينوي إبرازه. وثانياً، ما يسمّى بـ"اخراج الهيكل العظمي من الخزانة" أي كشف فضائح مبيّتة للمرشّح الديموقراطي جو بايدن وما وصفه المصدر بأنه "الصندوق الأسود" الذي سيدين بايدن في أكثر من ملف. وثالثاً، تسويق شخصية بايدن على أنها تفتقد القيادة.
"بايدن لم يكن أبداً في الصف الأول من القيادة"، قال المصدر، "انه جيد في المرتبة الثانية كتابع وليس كقائد". وما تنوي حملة ترامب أن تبرزه هو أن بايدن "ليس قائداً في زمن احتياج الولايات المتحدة الأميركية الى القيادة".
في ذهن الديموقراطيين، حسب المصادر ذاتها تعيين امرأة سوداء في منصب نائب الرئيس، لعلّها تكون احدى النساء ذات الأصول الأفريقية اللواتي انتُخبن الى الكونغرس. في ذهنهم ابراز حال الانقسام واللاجهوزية والاختلال dysfunctional التي وجدت أميركا نفسها فيه في زمن دونالد ترامب.
ماذا يريد العالم؟ انه منقسم كعادته عمودياً وأفقياً عندما يتعلّق الأمر بالانتخابات الأميركية وبدونالد ترامب بشكل خاص.
روسيا التي لها علاقات صعبة ومعقّدة مع ترامب الذي يفرض عليها العقوبات ليست متمسّكة ببديل عنه، بل تفضّله. والسبب هو انها أولاً تخشى "انتقام جو بايدن لهيلاري كلينتون" قال مصدر روسي في إشارة الى التهمة الموجّهة الى روسيا بأن تدخُّلها وتلاعبها بالانتخابات الأميركية أسقط مرشّحة الديموقراطيين هيلاري كلينتون.
السبب الآخر هو الأمل الدائم بأن يعقد ترامب صفقة مع الروس سيّما وأنه "تاريخياً، ان جميع الصفقات والمعاهدات أبرمناها مع الجمهوريين وليس مع الديموقراطيين".
الصين تحتفظ بأوراقها لنفسها وحتى الآن ليس واضحاً من تُفضّل بين المرشحين للرئاسة الأميركية. ترامب، ظاهرياً، يبدو ليس مفضّلاً لكنه قد يكون مرفوضاً لدى الحزب الشيوعي الحاكم ومقبولاً لدى رئاسة الصين.
إيران تراهن بقوة وتستثمر بشدّة في إسقاط دونالد ترامب لأن عقوبات إدارته مستمرة ومتزايدة. وبحسب مصادر مطّلعة على صنع القرار في طهران، ان العقوبات الأميركية الأخيرة المتعلّقة بأكثر من 50 ناقلة نفط، بالذات من فنزويلا الى إيران، أدّت الى البحث الجدّي بين كبار العسكريين الإيرانيين في خيار "حرب الناقلات".
الثابت في السياسة الأميركية الى حين موعد الانتخابات الرئاسية هو سياسة العقوبات. عدا ذلك، ان البوصلة متحرّكة بحسب المقتضيات. والى حين بعض الاستقرار الجغرافي السياسي والاقتصادي والشخصي والنفسي، سيبقى للثقافة والفن والموسيقى دوراً عميقاً في زرع بعض الطمأنينة.
التعليقات